الباص السريع: خطوة أولى نحو شبكة نقل عام كفؤة في عمّان

الثلاثاء 31 آب 2021
ركاب في الباص السريع. تصوير مؤمن ملكاوي.

استخدمتُ الباص السريع عدة مرات أثناء تشغيله التجريبي، عندما كانت تكلفة الرحلة قرشًا واحدًا من أجل تشجيع الركاب على تجربته. ولاحظت حماسةً باديةً على وجوه الركاب، كبارًا وصغارًا، من أصحاب السيارات الخاصة أو غيرهم ممن جاءوا لتجربة الباص الذي طال انتظاره.

في إحدى المرات، وعندما كنا على وشك مغادرة المحطة الرئيسية في منطقة صويلح، ضبطت ساعة هاتفي لأعرف المدة التي ستستغرقها الرحلة. بينما هاتفت سيدة جلست إلى جانبي زوجها الذي يعمل بالقرب من الدوار الخامس، وطلبت منه احتساب الوقت منذ لحظة انطلاقها وصولًا إلى مقر عمله، فقد كانت تجرب الباص نيابة عنه ليقرر لاحقًا ما إذا كان يمكنه التخلي عن استخدام سيارته الخاصة في مشواره اليومي من مكان سكنهم في الكمالية إلى الدوار الخامس. لم تكن قد تشكّلت لدينا آراء مدروسة حول جدوى التنقل بالباص، لكننا شعرنا بارتياح عام، وتبادلنا حديثًا قصيرًا تمنّينا فيه أن تتوسع التجربة فنصل بالسلاسة ذاتها إلى كل المحافظات.

بعد انتهاء فترة «القرش الواحد»، بدأ العمل بتسعيرةٍ تبلغ 65 قرشًا لكامل المسار من محطة صويلح حتى ساحة المتحف في منطقة راس العين، و35 قرشًا من صويلح إلى المدينة الرياضية، و40 قرشًا من المدينة الرياضية إلى المتحف. لكن أمانة عمّان الكبرى أعلنت قبل أيام عن تعديل التسعيرة لتصبح ثابتة بقيمة 55 قرشًا لكل المسارات، ابتداءً من الأحد الماضي.

بالنسبة لآمنة البسطامي (25 عامًا) فإن الفرق الذي لمسته بعد تجربة الباص لا يتمثّل بالتكلفة، إنما في الخدمة. تعمل البسطامي في منظمة غير حكومية، وكانت رحلتها اليومية إلى العمل تسير على النحو التالي: تركب حافلة من الكمالية إلى صويلح، ثم حافلة أخرى من صويلح إلى الدوار الثامن، وحافلة ثالثة من الدوار الثامن إلى الدوار السادس. تقول إن هذه الرحلة لم تكن مريحة لها دومًا، فعند حاجتها للتحرّك خلال دقائق، تكون الحافلة بانتظار تحميل ركّاب آخرين ما يتسبب بتأخيرها. وكان الأمر أكثر إزعاجًا لها قبل جائحة كورونا، «كان يكون في الناس اللي بيحملوا زيادة، فكان هذا الإشي مزعج، خصوصًا إذا أنا قاعدة عالطرف وفي زلام واقفين بالنص (..) أنا ما بكون مرتاحة».

وقبل تثبيت التسعيرة لكل المسارات، كان الباص السريع يوفّر عليها في رحلتي الذهاب والعودة من العمل 20 قرشًا فقط، لكنه يريحها ويوفّر جهدها إذ تركب باصًا واحدًا من صويلح إلى السادس، كما أن الباص «مكيّف (..) أنا بحط البطاقة، ويعني لما بدي أنزل خلص بكبس الزر، ما بدي حدا يظل يسألني نازلة هلأ؟ أو وين نازلة؟».

أما سامي* (34 عامًا) فإن الباص السريع يوفّر عليه أكثر بكثير مما يوفره على البسطامي، فهو يقيم في محافظة البلقاء، ويعمل طبيبًا عامًا في مستشفى خاص في عمّان، وكان يركب حافلة من مكان سكنه إلى صويلح، ثم تبعًا لظروفه يستخدم وسيلة النقل المناسبة إلى مكان عمله، لكنه غالبًا ما كان يعتمد على التكاسي وسيارات أوبر؛ وهو ما صار الباص السريع يوفرّه عليه. لذا، يعتبر سامي أن الباص قدّم له خدمة «ممتازة»، ولا يريد إلا أن تُكمل السلطات ما تبقى من مسار الباص «لإنه في شوارع كثير سكرولنا إياها بالبلد». ويقول سامي إنه استخدم سابقًا سيارة خاصة في التنقل، لكنه فضّل ألا يقود بنفسه بعد تعرضه لحوادث سير عندما كان يسهو عن القيادة أو يغلبه النعاس وهو خلف المقود.

ارتياحٌ للتجربة، وتحفّظٌ عليها

عندما جرّب حازم زريقات، وهو مهندس خبير في قطاع النقل، الباص السريع أول مرة، كتب منشورًا على صفحته في الفيسبوك عبّر فيه عن سعادته بالتجربة كراكبٍ، وأنه يودّ لو يترك شعوره بالراحة يطغى ولو لفترة مؤقتة على تحفظاته وتخوفاته بشأن المشروع.

يقول زريقات لـ«حبر» إن جانبًا منه شعر بأن ما تحقق في المشروع حتى الآن «أحسن من بلاش»، فهذه وفقًا لما يرى بداية نظام نقل عام «أعطى الحافلة أولوية على المركبة الخاصة، وأعطى الحافلة اللي فيها عدد كبير من الناس أولوية على المركبة اللي فيها شخص واحد». لكنه يتحفّظ على بناء الجسور والأنفاق معتبرًا أنها تؤثر على جمالية المدينة، وتحتكم إلى «عقلية أو يعني أسلوب لإدارة الحركة داخل المدينة بيفضّل السيارة الخاصة». مضيفًا أنه يميل إلى وجهة النظر «المحافِظة» كما يصفها والتي لا تمانع التضييق والضغط على سير السيارات الخاصة إذا كان الهدف هو إعطاء الأولوية للنقل العام.

ويرى زريقات أنه كان من الأولى أثناء التحضير للمشروع التركيز على آلية التشغيل بحيث تضمن استمرارية الخدمة واستدامتها، وتجيب على الأسئلة المتعلقة بالجهة المُشغّلة للمشروع وآلية تعويضها، كما تعمل على إيجاد خطوط نقل دائمة ومغذية، فالباص السريع «ما رح يشتغل لحاله بده شبكة داعمة وبده شبكة متكاملة»، بحيث تكون آلية الدفع موحدة في هذه الشبكة، ويسهل على الركاب تخطيط رحلاتهم.

ويعتبر زريقات أن «أسوأ إشي تحكيه للراكب إنه بدي إياك تنزل من هذا الباص تغيّر لباص ثاني». وقد توصّل سابقًا في دراسةٍ شارك في إعدادها إلى وجود عدد كبير من التحويلات التي على الراكب في عمّان أن ينتقل فيها من واسطة نقلٍ إلى أخرى، وهو ما يعدّه «مقياس لكون الشبكة ما بتخدم احتياجات الناس».

وبحسبه، يمكن أن تُلبّى هذه الاحتياجات بشكل أفضل إذا ما تغيّر تصميم الشبكة وطال التغيير مسارات خطوط النقل، لكن هذا التغيير يحتاج إلى معلومات وافية حول أثر تغيير مسارٍ ما على حجم الطلب عليه والإيرادات المتأتية منه، وهو ما نفتقر إليه في الوقت الراهن، وفقًا له.

هل مسار الباص السريع آمن؟ 

بعد تشغيله، وقعت بعض حوادث الدهس بسبب تواجد مارّةٍ في المسار المخصص للباص السريع، ويتضّح للركاب أن سائقي الحافلات يتفادون في كل رحلة وقوع مثل هذه الحوادث. يقول السائق زياد العمايرة (42 عامًا)، الذي يعمل في الشركة الأردنية التركية لإدارة وتشغيل حافلات النقل العام، إن هناك من يجلس على جانب المسار ويمدّ رجليه داخله، فيما يعبر أشخاصٌ الشارع دون الالتفات للباص رغم تنبيههم بواسطة الزامور.

العمايرة متقاعدٌ من الأمن العام، وهو يدرِّب على قيادة السيارات من جميع الفئات، وهذه أول وظيفة يشغلها في قيادة الحافلات منذ تقاعده، «اخترت هاي الشغلة لإني يعني متأكد تمامًا إني رح أنسجم معاها وأكمل باقي مشواري». ويعتقد أن مشروع الباص السريع مهم، وينتظر أن يصل مساره في المرحلة الثانية إلى منطقة سكنه في الهاشمي الشمالي حتى يستغني عن سيارته الخاصة التي يركنها في نقطٍة يستقل منها حافلة إلى المدينة الرياضية حيث يعمل.

بالمقابل، لا يخفي العمايرة إحساسه بالتوتر طيلة ساعات العمل خشيةً من الحوادث، «لا سمح الله إذا ضربته أنا بتحمل مسؤولية»، قائلًا إنه يخرج من منزله «عشان أشتغل ثماني ساعات أو 10 ساعات، وأروح براتب لعيلتي، أتفاجأ وإني مرمي بالسجن وأقعد أصرف ع اللي ضربته».

بحسب المهندس حازم زريقات فإن الباص السريع «أعطى الحافلة أولوية على المركبة الخاصة، وأعطى الحافلة اللي فيها عدد كبير من الناس أولوية على المركبة اللي فيها شخص واحد».

أما زميله عمر جعارات (45 عامًا)، وهو متقاعد عسكري يعمل في الشركة نفسها منذ عامين، فإنه يحاول التماس العذر لمن يعبر المسار، فقد يكون هناك -من وجهة نظره- من لا يعرف آلية عمل الباص السريع وتخصيص هذا المسار له، مع وجود مواقف محددة. ويعتقد أن في شارع الجامعة الأردنية بالتحديد ما يشكل خطرًا على المشاة والسائقين؛ «في على الرصيف شجر، يعني صعب إنك تشوفي، خاصة بعد المغرب، صعب تشوفي هاد شجرة أو بني آدم، ما بتحسي بيه فجأة وهوب ولا إنه قاطع، لا بينتبه يمينه شماله».

يقترح جعارات، من أجل توفير حماية للسائقين والمشاة، تركيب حواجز بارتفاعات عالية، وزيادة عدد المحطات التي تشهد ازدحامًا «بحيث حتى لو أجاك مواطن وقطع، تكون سرعة الباص بطيئة مش عالية». فيما عدا ذلك، يعتبر جعارات المشروع «ناجح»، وأن الناس سيدركون أهميته بعد انقضاء الظرف الوبائي الحالي وعودة الحياة إلى طبيعتها بشكل كامل، بما في ذلك عودة الطلبة إلى المدراس والجامعات، عندها يقول جعارات «بيصيروا يشعروا إنه همّة ماشيين في الباص والسيارات واقفة».

بالإضافة إلى المسافة وتأثير التداخل مع الأزمة عند نقاط معينة، يقول جعارات إن على الركاب أن يتوقعوا اختلافًا في المدة الزمنية من رحلة إلى أخرى، لأن السائق ينتظر حتى يمرّر كل راكب البطاقة ويجلس في مكانه بأمان قبل الانطلاق، وعليه أن ينتظر مدة إضافية عند صعود ذوي الإعاقة إلى الباص المجهز بـ«رمبة» لاستقبالهم، ولكنه يحتاج إلى مسافة محددة بين الباص والرصيف لتمديدها قد لا تكون متاحة بأريحية في كل المحطات. 

الباص السريع أثناء مروره في عمّان. تصوير مؤمن ملكاوي.

من جهته، يقول الناطق الإعلامي باسم أمانة عمّان الكبرى، ناصر رحامنة، إن الأمانة بذلت جهدًا كبيرًا في توعية الناس وحثّهم على تجنّب التواجد في مسار الباص، كما أن الإعلانات والإشارات التوضيحية متوفرة، و«الأصل إنه ما حدا يدخل فيه، لا سيارة أو مواطن، إلا على الرصيف أو على مكان التحميل والتنزيل»، يقول رحامنة. مضيفًا أنه يوجد إشارات مرورية مخصصة للمشاة تمكّنهم من إيقاف السير وعبور الشارع بأمان.

أما مدير النقل في الأمانة، خالد أبو عليم، فيشير إلى وجود جسورٍ مخصصة للعبور في الأماكن صعُب فيها توفير إشارات المرور، مثل «الشريان الرئيسي اللي عند الجامعة الأردنية (..) تم تجهيزه بأدراج كهربائية ومصاعد»، يقول أبو عليم.

وإلى جانب خدمته لمختلف القطاعات، يرى رحامنة بأن مشروع الباص يقدّم خدمة مريحة للنساء بحيث «يستطعن الركوب في باص سريع التردد بلا خوف، ما في أي نوع من أنواع الربكة».

تعمل في المشروع حاليًا 24 حافلة، ويؤكد رحامنة استعداد الأمانة للتعامل مع الزيادة في الطلب على الباص عند عودة الطلبة إلى مقاعد الدراسة، وبأنها «ما بتشتغل إشي إلا من خلال خططها الاستراتيجية وخططها التنفيذية، يعني كل إشي محسوب حسابه».

إلا أن زيادة الطلب على الباص ما تزال محكومة باعتبارات مختلفة، منها سهولة الوصول إلى المحطات وتوافر مواقف للسيارات عندها. ويقول أبو عليم إن المحطات الرئيسية التي اختيرت للمشروع هي محطات مغذية ذاتيًا، «منطقة رأس العين إحنا بنسميها منطقة مغذية ذاتيًا، وجود المنطقة في وسط البلد، التقاء لأكثر من خط من خطوط وسائط النقل العام، وبالتالي هي مُغذّية ذاتيًا». لكنه لا ينفي اختلاف الحال في بعض المحطات الفرعية.

وفي هذه الحالة، قامت الأمانة بحسب أبو عليم بتحويل بعض خطوط النقل الداخلية «من خلال العرض والطلب من المستخدمين»، وبناءً على رغبة أصحاب سيارات النقل بتحويل خطوطهم لتغذية هذه المناطق، قائلًا إن «الباص السريع هو صحيح خدمة للمواطن لكن بنفس الوقت ما بدنا نؤثر على أرزاق ناس ثانية»،  ويضرب مثالًا على ذلك بمنطقتي ضاحية الرشيد وضاحية الروضة حيث يتواجد فيهما ست محطات فرعية، وقد تم تغذيتها بثمان سيارات سرفيس تنقل الركاب إلى المحطات من داخل الأحياء.

مضيفًا أن مواقف السيارات الموجودة في محطة صويلح ليست مخصصة للركاب، إنما لاستخدام إدارة المحطة والسائقين الذين يستخدمون سياراتهم الخاصة للوصول إليها، وأنه لا يوجد في المحطة مساحة كافية لاستيعاب سيارات الركاب، خصوصًا أن «مداخلها ومخارجها هي مداخل ومخارج حافلات، فمن الخطر إني أسمح للناس تدخل بسيارات عادية».

وبحسب زريقات، فقد لا يكون للمشروع أثر ملموس على تحوّل الركاب إلى النقل العام وتخليهم عن سياراتهم الخاصة، فـ«المشروع كان مفروض يشتغل بـ2012، وعمّان كبرت، واحتياجات الناس في التنقل زادت»، ولكنه يصلح كـ«بداية» نحو هذا الطريق.

* اسم مستعار.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية