فؤاد ميمي: أشهد أنني قد عشت

الأربعاء 26 حزيران 2024
لوحة للفنان فؤاد ميمي بعنوان «وصول الشتاء». المصدر: المتحف الوطني للفنون الجميلة.

مصمم أزياء ومدرس فنون وكاتب ومنتج ومخرج تلفزيوني، وقبل كلّ هذه المهن والهوايات، هو رسام وفنان تشكيلي. هكذا يمكن وصف الفنان الأردني فؤاد ميمي، والذي رغم حضوره المتقشف في المشهد التشكيلي الأردني، إذ إن آخر معرض له أقيم في آب من العام 2015، إلّا أن هذا لم يحل دون الاعتراف بميمي بوصفه صاحب بصمة مميّزة في مسار الحركة التشكيلية الأردنية المعاصرة.[1] 

هذا الغياب عن المشهد التشكيلي المحلي مردّه انشغالات ميمي الفنية الأخرى، إذ بالاضافة إلى الرسم الذي يبقى شغفه الأول، مارسَ كلّ ما عنّ له من هوايات ومهن وفنون. هذه الأريحية والتنقل بين مهن وفنون تدفع ميمي للقول، عند النظر إلى الخلف وتأمل مسيرته الحافلة: أشهد أنني قد عشت.[2]

فؤاد ميمي: سيرة فنية

ولد فؤاد ميمي في مدينة اللد الفلسطينية عام 1946، لعائلة متوسطة الحال ضمن ستة أبناء وبنات، كان ترتيبه الخامس بينهم. هاجر مع أسرته أوّل الأمر إلى رام الله، وبعد وفاة والده، انتقل مع والدته وإخوته إلى عمّان، حيث عاش طفولته وشبابه المبكر. وتلقى تعليمه في مدرسة اللاتين في حي المصدار.

خلال دراسته في المرحلة الثانوية مارس هواية الكتابة في الصحف المحلية، وقد لفتت كتاباته هذه رئيس الوزراء وقتها وصفي التل. وقد التقاه الفتى فؤاد ذات مرة في بيت عائلة صديقه، وكان حينها على وشك إنهاء دراسته في مرحلة الثانوية العامة، فاقترح وصفي التل على الشاب الصغير «أن يداوم في الإذاعة»، وكانت هذه البداية المبكرة لدخوله معترك الحياة المهنية.[3]

فيما بعد، يقول ميمي، نُقل إلى التلفزيون الأردني. وبما أن التلفزيون وقتها كان في بداية بثّه فقد ابتعث ميمي لدراسة الإخراج والإنتاج التلفزيوني في قناة «بي بي سي» في بريطانيا. ليحصل بعدها على منحة لدراسة الفن التشكيلي في كلية سانت مارتن في لندن، فنال منها شهادة الدراسات المتقدمة في الفنون الجميلة.

في السنوات التالية، حصل ميمي على عدد كبير من المنح والدورات في مجالات الإخراج التلفزيوني والفنون الجميلة في إيطاليا وفرنسا والسويد والولايات المتحدة والجزائر، حتى إنه قضى 12 سنة من حياته يتنقل ما بين عمان وأوروبا والولايات المتحدة، ويتلقى المزيد من الدورات والمنح الدراسية.

خلال تعاونه مع إحدى عارضات الأزياء على إنجاز دراسة حول الأزياء في الشرق الأوسط، أُعجب المصمم الفرنسي إيف سان لوران بتصاميم ميمي، ونصحه أن يأخذ التصميم على محمل الجد. ورغم حصول ميمي على جوائز عن تصاميم أنجزها، ومنافسته في مسابقات كان فيها العديد من المصممين إلّا أنه انشغل عن التصميم بأشكال فنية أخرى، إذ وبحسبه «من كان ليهتم بالأزياء في الأردن، حينذاك»!؟

مجموعة من تصاميم أزياء فؤاد ميمي.

ميمي مخرجًا تلفزيونيًا

عمل ميمي في التلفزيون، ومن بين أعماله المبكرة يفتخر ميمي ببرنامج «فنون تشكيلية»، الذي كان يخرجه للتلفزيون الأردني في أواسط السبعينيات، وكان يغطي المعارض الفنية ويساهم في نشر الثقافة الفنية.

وبعد هذا البرنامج قام بداية التسعينيات بالتعاون مع صديقه المخرج والمقدم عدنان العلي، بإنتاج 13 حلقة عن الفنون الجميلة تحت عنوان «موزاييك». ثم تعاون الصديقان على إخراج ثلاثين فيلمًا وثائقيًا، تحت عنوان «حدث هنا»، التي كتبها وأعدها الأديب جمال أبو حمدان. وفي العام 2000 أخرجا معًا فيلمين وثائقيين هما «البحر الميت في خطر» و«بيئة البحر الميت». كما عملا على إنتاج وإخراج مجموعة من الأفلام الوثائقية التي تُعرّف بطبيعة الأردن ومواردها السياحية والاقتصادية والتاريخية والاجتماعية.

ويفخر ميمي بحصول فيلمه التسجيلي «الخط العربي» خلال شهر واحد على جائزة التاج الذهبي في مهرجان كازابلانكا في المغرب، وبجائزة مماثلة من مهرجان أفلام تونسي.

فؤاد ميمي الفنان التشكيلي

تفسر كثرة الفرص الدراسية التي تحصل عليها ميمي وانشغالاته التلفزيونية قلّة المعارض الشخصية التي أقامها، وتلك الجماعية التي شارك بها. ومع ذلك فقد لفتت أعماله المبكرة، على قلتها، العديد من الفنانين والنقاد، حيث اتسمت بطابعها الملوّن والمبهج والروحاني، وحينها صنفت أعماله «بالمدرسة الانطباعية المعاصرة»، فيما انتسبت أعماله المبكرة إلى ما يمكن وصفه «بالواقعية التعبيرية».

مجموعة لوحات تظهر الطبيعة كما يختزلها فؤاد ميمي

أمّا كيف بدأ هذا المسار، فيقول ميمي: «كان لدي دائمًا ذلك الشغف بالرسم، وكانت أمي تروي كيف كنت، وأنا طفل، أجلس وحدي لساعات لأمارس الرسم، بدلًا من الخروج من البيت واللعب مع الأولاد الآخرين».

رغم هذا الشغف الكبير بالرسم، يعترف ميمي بأنه لم يعط الرسم الوقت الكافي، رغم تلقيه نصائح عديدة بالعكوف على الرسم، إلّا أنه يضيف أنه قد فرّغ هذا الشغف في «تقديم برامج تلفزيونية عن الفن التشكيلي».

أقام فؤاد ميمي معرضه الشخصي الأول في تشرين الأول 1975 في المجلس البريطاني في عمان. وفي العام 1981 استضاف جاليري عالية معرض فؤاد ميمي الثاني، وتلاه معرض آخر في معهد غوته الألماني. وعاد، بعد سنوات عديدة ليقيم معرضه الشخصي الرابع في المركز الثقافي الفرنسي، في أواخر تشرين الثاني 1999. وقد قدم لمعرضه هذا صديقه وشريكه في عشرات الأعمال التلفزيونية عدنان العلي.

ميمي إذ تلهمه الطبيعة

خلال العقدين الأخيرين بات ميمي أكثر تفرغًا للرسم وكذلك لعرض أعماله على الجمهور، فأقام أكثر من معرض، كان بينها معرض في جاليري نبض في نيسان 2009، وشمل 79 لوحة أنجزها ميمي منذ السبعينيات.

أعاد هذا المعرض التذكير، ولو بصورة متأخرة، بتجربة ميمي التي تعطي المشهد الطبيعي المحلي مكانة مركزية. حيث وصفت باعتبارها «دراسات لونية للمنظر الطبيعي المحلي بأسلوب انطباعي»، وتحيل بعض الكتابات أسلوب ميمي إلى «تلوينات الفنان الفرنسي بول سيزان»، بل اعتبرتها بمثابة «اتكاء كامل على ذات التقنية والبناء الفني وحتى على صعيد المواضيع».[4]

وعن أعمال هذا المعرض كتب مازن عصفور، أستاذ النقد في كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية: «ينهل الفنان من الطبيعة والملامح المعمارية الأردنية (..) التي يبرزها بطريقة عفوية، بينما يكمن وراءها وعي متعمق في تحليل الأشكال وتأليفها برؤية واضحة للموضوع». كما علّق على استفادة ميمي من عمله في التلفزيون بالقول إنها كانت «حافزًا للفنان لتجاوز الكثير من إشكاليات اللوحة المعاصرة، حيث اندفع إلى لغة التلصيق والمونتاج والتقطيع، وهكذا خاض ميمي تجربته بحيوية المصور السينمائي وقدرة المخرج ويد الرسام وريشته».[5]

منظر طبيعي لفؤاد ميمي، من مقتنيات المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة

وعاد جاليري «نبض» لإقامة معرض شخصي ثانٍ له في تموز وآب 2015، تحت عنوان «رحلة عواطف» (A Passion For Colour)، وضم 80 لوحة أنجزها الفنان خلال فترات زمنية متباعدة، أقدمها يعود إلى سبعينيات القرن الماضي. وعن أعمال ميمي في هذا المعرض قال الفنان مهنا الدرّة: «انعكست على أعماله شخصيته التي تتميز بعاطفة جياشة وحساسية طاغية، وصار من غير الممكن فصل ما يقوم به من أعمال فنية عن شخصيته هذه». وأضاف «لا نجد غرابة بإعجاب فؤاد ميمي بالانطباعية التي تجوّل بين مبدعيها، من فان جوخ وجوجان إلى مانييه ورينوار. ومع كل ذلك الثراء، حافظ دومًا على شخصيته المتميزة التي تمت صياغتها عبر سنين طويلة من العمل الشاق، لتصل به إلى ما نراه اليوم من نضج يضعه بين كبار الفنانين».[6] 

العمارة المحلية مصدر إلهام لفؤاد ميمي

المشهد الطبيعي والطبيعة الصامتة والمشهد المعماري «ثيمات» متكررة في أعمال فؤاد ميمي.

وفي مناسبة ثالثة، شارك فؤاد ميمي مع الفنانيْن عمار خماش وهاني علقم في المعرض الذي أقامه جاليري نبض تحت عنوان «حصاد مقدس»، وذلك في تشرين الأول 2018. هنا لم تختلف مشاركته في هذا المعرض الجماعي عن معرضيه السابقين، من حيث هيمنة مفردة اللون على المشاهد الطبيعية، والمشبعة بمشاعر الرسام وانشغالاته العاطفية.

يرى ميمي أن الطبيعة تبقى الملهم الأساسي للفنان، والهروب نحوها ليس انحرافًا، بقدر ما هو اتجاه نحو أساس متين على مستوى اللون والشكل والخط والقيم الفنية على اختلاف أنواعها. ويضيف أن أعمال الفنان تتحقق من خلال تفاعله مع الحياة وليس بعيدًا عنها.

يختار فؤاد ميمي قياسات فريدة لأعماله الفنية. هنا لوحتان طويلتان لمشاهد من الطبيعة.

كما يؤمن أن الفن من مقومات حياة الشعوب ومن أسباب بقائها، وأنه المرآة الصادقة التي تعكس صورة المجتمع والحياة الاجتماعية. ويصرح بأنه «يرسم الصدق والحقيقة في أعماله، وأنه حين يدرك ما يقوم به ويكون قادرًا على تنفيذه فإنه يشعر بنفسه كما لو كان همزة وصل قوية بين الطبيعة والإنسان».[7]

شهادة عدنان العلي في فؤاد ميمي

لعل أكثر من فهم فؤاد ميمي وفلسفته الفنية صديقه المخرج عدنان العلي، حيث سجل شهادته فيه، من موقع المواكبة المستمرة لأعماله وتطوّرها. وإن كانت هذه الشهادة قد سجلت قبل خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، إلّا أنها لا زالت مناسبة لتقديم نظرة على الفن الذي ينتجه ميمي.[8]

يقول العلي: «إن مهارة الفنان فؤاد ميمي باعتباره ملونًا ورسامًا صافيًا لم تخذله أبدًا في تقديم مجموعة جديدة من لوحاته، وهو القادر على اكتشاف الأشكال التي تعبر عن أفكاره وذاته، وربما يكون فؤاد من الفنانين القلائل الذين يسعون دائمًا إلى إعطاء لغة الرسم المتمثلة في الشكل واللون والمساحة، وجودًا ذاتيًا مستقلًا». ويضيف أن المُشاهد لأعمال ميمي يشعر بالترابط المؤثر فيما بينها، «وكأنها في النهاية عبارة عن عمل واحد يحكمه خط من الانسجام، على الرغم من تنوعها»، وهذا برأيه يدلّ على «الشخصية الناضجة والمصقولة التي يتمتع بها الفنان، فهو يعرف ما يريده تمامًا».

وينتهي عدنان العلي إلى أن الفن في رأي ميمي «لا يحتاج لفلسفة استهلكت من كثرة الاستخدام، مثل حكاية «المعاصرة والأصالة». وإنما إلى «شعور عاطفي صادق وتمكن جيد على صعيد الأسلوب. وبعد ذلك ستعثر الأشكال على ما يهبها حياتها».

الطبيعة أولًا.. وغالبًا

  • الهوامش

    [1] اختارت رابطة التشكيليين الأردنيين فؤاد ميمي، إلى جانب عدد من الفنانين الاردنيين من جيل السبعينيات لتكريمهم، يوم السبت 14 تشرين الأول 2023، غير أن العدوان الإسرائيلي على غزة اضطرَ الرابطة لتأجيل هذا الاحتفال إلى موعد لاحق.

    [2] «أشهد اني عشت»، هو عنوان مذكرات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا. وكثيرًا ما استعار شعراء وفنانون هذا العنوان لاختزال ما مرّوا به من أحداث وتقلبات في حياتهم.

    [3] من حديث كاتب المقال مع الفنان فؤاد ميمي.

    [4] انظر/ي وجدان العلي، الفن المعاصر في الأردن، الجمعية الملكية للفنون الجميلة، عمان، الأردن، 1996، ص 104/105.

    [5] انظر/ي بروشور جاليري «نبض» الخاص بمعرض فؤاد ميمي «رحلة عواطف»، 27 تموز- 26 آب 2015.

    [6] انظر/ي صحيفة الرأي، «رحلة عواطف»، معرض للفنان ميمي في «نبض»، العدد الصادر في 27 تموز 2015.

    [7] من شهادة خطية لفؤاد ميمي عن رسالته ورؤيته الخاصة لفنه.

    [8] من تقديم عدنان العلي لمعرض فؤاد ميمي في المركز الثقافي الفرنسي (1999)، إضافة لتعليقاته على أعماله في مناسبات مختلفة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية