عمان الزرقاء جرش

من المحافظات إلى عمّان: الهجرة الداخلية للنساء العاملات

من المحافظات إلى عمّان: الهجرة الداخلية للنساء العاملات

الثلاثاء 26 كانون الثاني 2016

حين قررت منى النمري الانتقال من بلدة الحصن جنوب إربد للعمل في عمان عام ٢٠٠٤، كان قرارها مستهجنًا من قبل الكثير من المحيطين بها، رغم عدم اعتراض عائلتها عليه. «كيف يعني بنت ساكنة لحالها؟» كان السؤال الذي لم يملّ البعض من طرحه عليها. لكن في نظر منى، فإن تقبل الناس لمعيشة شابة عزباء بمفردها اليوم أكبر مما كان عليه حينذاك.

هذه الفئة من النساء المتعلمات المستقلات ماديًا ومكانيًا، والعازبات تحديدًا، في نمو مستمر منذ سنوات. ورغم اختلاف خلفياتهن وظروف انتقالهن للعيش والعمل في العاصمة، إلا أن معظم قصصهن تتقاطع فيها أزمات العدالة الاجتماعية والتساوي في الفرص، جغرافيًا وجندريًا، وتُضاعِف مصاعبهن النظرة التي ترى فيهن ملحقات بعائلة أو زوج، لا يكتملن دون أحدهما.

بطبيعة الحال، من الصعب جدًا حصر عدد النساء اللواتي يتخذن قرارًا كهذا لتوزعهن على قطاعات عدة وتعدد الأماكن التي جئن منها، إلا أن الهجرة الداخلية للأردنيات العازبات من المحافظات إلى عمان للعمل باتت مشهدًا أكثر شيوعًا، له دلالات هامة حول تبعات التعليم، وتغيرات أنماط التشغيل في الأردن، وانعكاسات ذلك اجتماعيًا.

حركة متزايدة


النساء والعمل-01 (4)عام ٢٠١١، لفتت بعض العاملات في عمّان انتباه فداء عديلي، الباحثة الأردنية الامريكية في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورجتاون في واشنطن، إلى هذا الازدياد في الانتقال للعاصمة للعمل، لتبدأ عديلي بعدها العمل على بحث
مستمر ينظر بعمق إلى حيثيات هذا الازدياد.

قابلت عديلي وفريقها في الدراسة التي لم تنشر بعد ٣٧ امرأة عزباء عاملة من إربد، وعجلون، والمفرق، والطفيلة، والكرك، والشوبك، وقراها، انتقلن إلى عمّان للعمل منذ فترات مختلفة، ووجدت بينهن قواسم مشتركة عديدة: كنّ طالبات متفوقات في مدارس حكومية، بالتالي كنّ مدفوعات نحو التخصصات العلمية كما هي الحال في معظم المدارس الحكومية. كلهن كنّ جامعيات، والبعض لديهن درجات في الدراسات العليا. و٧٥٪ منهن كنّ موظفات في القطاع الخاص.

رويدا ذات الثلاثين عامًا والعاملة في قطاع تكنولوجيا المعلومات عبرت لعديلي عن تفضيلها للعمل في القطاع الخاص على القطاع العام على اعتبار أن فرص النمو والتقدم الوظيفي في الأخير محدود، رغم أن الأهالي ينحازون للأمان الوظيفي فيه. وإن بقيت في بلدتها الأم، فإن الفرص المتاحة أمامها في القطاع الخاص بنظرها «محدودة». «للأسف، نحن نسمي هذه المحافظات مدنًا، لكنها في الواقع لا تتعدى مستوى الريف من حيث المرافق والتنمية والخدمات. فرص العمل فيها محدودة ومقتصرة على القطاع العام».

الحاجة للنمو تكررت كذلك على ألسنة النساء اللواتي قابلتهن حبر كدافع قادهن إلى عمان. سوزان خنيفس، ذات السبعة وعشرين عامًا، قالت إن العمل في عمان بالنسبة لها «أفضل للمستقبل»، إلى جانب كثرة الفرص فيها بالمقارنة مع إربد حيث تسكن عائلتها.

بالنسبة لغدير الآتية من العقبة، كانت عمان الخيار الوحيد أمامها لإكمال تخصصها في الطب، لاقتصار برامج الإقامة التي تبحث عنها على عمان. فبعد أن أنهت سنوات الدراسة في جامعة العلوم والتكنولوجيا في إربد، وعادت لتقضي سنة الامتياز في العقبة، انتقلت إلى عمان للتخصص في مستشفى الجامعة الأردنية، لتسكن بمفردها في المدينة.

ما دفع هؤلاء النساء خارج محافظاتهن نحو عمان ليس تفضيلاتهن الشخصية لوظائف بعينها فحسب. فالبقاء في أماكن تواجد عائلاتهن كان سيعني لمعظمهن ازدياد احتمالات البطالة بشكل فارق. هذا ما يؤكده مسح لجنة الخبراء لسوق العمل في الأردن الذي أجرته دائرة الإحصاءات العامة، والمنشور في الاستراتيجية الوطنية للتشغيل للأعوام ٢٠١١-٢٠٢٠، والذي يشير إلى أن نسبة البطالة بين الإناث في محافظات الشمال تقارب ضعف النسبة في محافظات الوسط، وأكثر من ذلك في محافظات الجنوب. ورغم أن ترتيب النسب بين المناطق مماثل لما هو عليه بين الذكور، إلا أن الفوارق أكبر بكثير.

النساء والعمل-02 (2)

بالنسبة لسميرة، المهندسة ذات الأربعة وعشرين عامًا التي قابلتها عديلي في دراستها، كانت فرص إيجادها عملًا في مجالها في قريتها «شبه مستحيلة». وفي نظرها، أصبح البقاء مع العائلة هدرًا لسنوات الدراسة التي تفوقت فيها. «لم أدرس لخمس سنوات وأقضِ ١٢ سنة من التفوق في المدرسة حتى ينتهي بي الأمر في البيت».

وتشير الاستراتيجية الوطنية للتشغيل إلى أن ٥٥٪ من جميع فرص العمل المستحدثة بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٠ كانت في العاصمة، وهو ما اعتبرت أنه «يتماشى مع سيادتها الديمغرافية» باحتضانها لـ٤٠٪ من السكان، لكن ذلك يترك محافظات أخرى بنسب فرص عمل غير متناسبة مع عدد سكانها، فإربد التي تحوز أكثر من ١٥٪ من السكان حظيت بأقل من ٧٪ من فرص العمل المستحدثة في الفترة المذكورة.

كحل بديهي لهذا الاختلال، يبحث سكان المحافظات عن فرص عمل في عمّان، معتمدين في كثير من الأحيان على شبكة وسائل نقل عام غير منتظمة وضعيفة البنى التحتية. لكن الاستراتيجية تشير هنا إلى أن القدرة على التنقل محدودة بشكل خاص بين النساء، لتخلق الفارق الواضح في معدلات البطالة المذكور آنفًا.

بالنسبة لمن قابلتهن حبر لهذا التقرير، كانت المواصلات العامة عذابًا يوميًا لم يستطعن تحمله جسديًا وماديًا. تقول عائشة التي تسكن عائلتها في قرية قرب إربد إنها وخلال الأشهر الستة الأولى لعملها في عمان كانت تضطر للاستيقاظ في الخامسة صباحًا حتى تصل إلى عملها في التاسعة، وتستقل ست وسائل نقل ذهابًا وإيابًا كل يوم.

أما منى النمري التي تنقلت يوميًا بين الحصن وعمان في بداية عملها عقب التخرج، فكانت تنفق على المواصلات ٩٠ دينارًا من راتبها الشهري البالغ ١٥٠ دينارًا في ذلك الحين. فكان خيار الانتقال إلى العاصمة أكثر جدوى بالنسبة لها، خاصة وأنها استقرت في منزل تملكه عائلتها في عمان.

المفاوضات مع العائلة

هذه الأسباب التي تدفع الشابات المتعلمات للبحث عن عمل في عمّان والانتقال إليها تبدو منطقية تمامًا بالنسبة لهن، لكنها ليست كافية دومًا لإقناع عائلاتهن بصواب قرار الانتقال.

تقول عائشة أنها كانت تنوي البحث عن عمل في عمان بمجرد تخرجها، وبعد أن تقدمت لشاغر وأجرت مقابلة عمل ثم حصلت على الوظيفة، أبلغت عائلتها التي كانت رافضة لفكرة عملها أساسًا. بعد مدة من المفاوضات، تمكنت عائشة من العمل بشرط أن تتنقل يوميًا بين قريتها وعمان، وهو ما كان يستغرق بالمجموع قرابة أربع ساعات يوميًا. بعد ستة أشهر من هذا الحال، اقتنعت العائلة بانتقال عائشة إلى عمان، بشرط أن تسكن في سكن طالبات يفرض موعد إغلاق مبكر. ومع الوقت، تقبلت عائلتها انتقالها للسكن في شقة مع عدد من صديقاتها، لتنتقل أخيرًا للسكن مع أخيها الأصغر الذي انتقل هو الآخر إلى عمان للعمل.

«شوي شوي الوضع اختلف. أنا بذكر إنه أول ما سكنت بعمان، أبوي كان يرنّ لي ١٦ مرة باليوم، بس هسّا ممكن ما أروّح بنهاية الأسبوع وما بيرنّ علي، فالأمور بتتغير».

أما سوزان خنيفس، فقد مهّدت للانتقال إلى عمان على فترة طويلة. فمنذ دراستها الجامعية في إربد، كانت تزور عمان باستمرار لتشارك في أنشطة تدريبية أو تطوعية أو للالتقاء بأصدقاء، لذا حين أخبرت أهلها بقرارها بالبحث عن عمل في عمان والانتقال إليها، لم يكن ذلك مفاجئًا، لكنه لم يكن مستساغًا أيضًا. في حالة عائلة سوزان، كما في حالات معظم من تحدثنا إليهن، كانت للأسرة المباشرة اعتراضاتها الخاصة، لكن اعتراضات العائلة الممتدة كان لها تأثير كبير على رفض الأسرة أو تقبلها. ورغم أنها أمضت حتى الآن أربع سنوات في عمّان، إلا أنها لا تزال تواجه ضغوطات للعودة حين تزور عائلتها في نهايات الأسبوع.

وفي كثير من الأحيان، يظل الزواج بالنسبة للنساء العاملات بعيدًا عن أسرهن موضوعًا يستخدم ضدهن بطرق غير مباشرة خاصة من قبل العائلة الممتدة. ويتخذ هذا الضغط أحيانًا شكل التهديد الضمني بأن استقلالهن سيطرد العرسان المحتملين، وأحيانًا تأتي في هيئة أسئلة عابرة من قبيل «إيمتى بدنا نفرح فيكِ؟»، أو في تعليقات تفترض إحجام هؤلاء النساء عن الزواج من باب التكبر أو التطلب المادي.

في دراسة عديلي، استطاعت معظم النساء السبعة والثلاثين اللاتي قابلتهن تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأصبحن مستقلات ماديًا على المدى المتوسط. بعض اللواتي قابلتهن ممن تعدّيْن الثلاثين سنة كن أكثر استقرارًا، بحيث بدأن يفكرن في شراء بيوت في عمان. لكن قلة من النساء كن يرسلن مبالغ مادية لأسرهن بشكل منتظم. فتكلفة العيش في عمّان تركت الكثير منهن في صراع مستمر لتغطية نفقاتهن، ومعظمهن احتجن إلى مساعدة من عائلاتهن في البداية لتأمين تكاليف الانتقال. العيش في شقق مشتركة أو سكنات خاصة كان حلًا متكررًا لجأن إليه لتقليل تكاليف الإيجار، فضلًأ عن كونه خيارًا محبذًا من قبل أسرهن.

تبعات هذا الاستقلال ليست صعبة الاستنتاج. تقول غدير أن عيشها في عمان جعلها أكثر مسؤولية واعتمادًا على نفسها. كما أن اختلاطها بأشخاص من بيئات مختلفة منحها خبرة أكبر في التعامل مع الناس. أما منى التي كانت «مدللة» في عائلتها على حد وصفها، كونها الصغرى بين أشقائها، باتت أشد استقلالًا وصارت شخصيتها أقوى. فالاستقلال الذي دفعته أسباب عملية بالدرجة الأولى سرعان ما أصبح غاية بحد ذاته.

«كإناث في هذا المجتمع، علينا أن نبذل ضعف الجهد الذي يبذله الذكور لنحقق ذاتنا»، تقول عائشة. لكن بعد أن تهدأ الخلافات مع العائلة ويملّ المعارف والأقارب من طرح الأسئلة ذاتها، قد يتضح حينها أن بعض المعارك تستحق أن تُخاض.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية