فرنسا والعودة إلى حالة الاستثناء

الأحد 22 تشرين الثاني 2015

بقلم جلبير الأشقر، ترجمة محمد زيدان

(نشر هذا المقال بالإنجليزية في jacobinmag في 19 تشرين الثاني 2015)

قرّر الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند أن يعلن الحرب على الإرهاب للردّ على الهجمات الإرهابية التي هزّت العاصمة باريس، وهو بهذا يسير على خطى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن حين أعلن الحرب ضد الهجمات الإرهابية التي ضربت برجي التجارة في قلب نيويورك.

وبإعلان الحرب بهذه الطريقة فإن الرئيس الفرنسيّ قد اختار تجاهل كل تلك الانتقادات التي كيلت من قبل لإدارة الرئيس الأمريكي السابق وهي انتقادات كان تعبّر عنها أغلبيّة الآراء في فرنسا في ذلك الوقت. ويبدو أنّ أولاند قد أعلن الحرب مع أنّ النتائج الكارثيّة لما أسمته إدارة بوش من قبله «حربًا على الإرهاب» قد دعّمت من مواقف المنتقدين لتلك الحرب. حتّى إنّ رجلًا مثل زيغمار غابرييل، نائب المستشارة الألمانيّة ميركل ورئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو الحزب الشقيق للاشتراكيين في فرنسا، قد صرّح بأنّ إعلان الحروب على الإرهاب لا يخدم سوى مصالح ما يدعى تنظيم الدولة «داعش».

قد يبدو لوهلة أنّ خطاب الحرب ليس إلا ردّة فعل عاطفيّة وطريقةً للتعبير عن الاستياء العارم والذي يمكن تفهّمه أمام هجمات مرعبة كتلك التي حصلت في باريس وحصدت أرواح 129 من المدنيين. غير أنّه يلزم أن لا ننساق إلى التصديق بأنّ الأمر صراع بين داعش وفرنسا، فهجوم على شاكلة ذلك الهجوم الذي هزّ أنقرة في العاشر من تشرين الأول الماضي، أو حادثة الطائرة الروسية التي راح ضحيتها 224 من الركاب بعد أن حدث انفجار داخلها فوق سيناء في 31 من الشهر ذاته، أو الهجوم الذي استهدف الضاحية الجنوبية في بيروت وقتل فيه 43 من المواطنين قبل يوم واحد فقط من الهجوم الذي ضرب باريس، وهذه أمثلة قريبةٌ وحسب. ما يتوجّب علينا تذكّره في المقابل هو أنّ هذا الهجوم، وسواه مما ذكرنا، ليس إلا نتيجة للصراع الذي سمحت قوى العالم باستمراره وتدهوره في سوريا.

إنّ ما ترتّب على هذه الهجمات خلال السنوات الماضية يبدو ضئيلًا أمام المأساة الإنسانية التي نشهدها في سوريا. القضيّة الأساسية فيما يتعلق بالضفاف الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسّط، بالمقارنة مع «قلب الظلام» في إفريقيا الوسطى، هي أنّ المآسي التي تصيب الناس هناك عادة ما تمتد في أثرها فينال أوروبا، أو حتّى الولايات المتحدة نصيبًا منها.

هذا الهجوم، وسواه مما ذكرنا، ليس إلا نتيجة للصراع الذي سمحت قوى العالم باستمراره وتدهوره في سوريا.

إنّ عدم الاكتراث بآلام الآخرين، خاصة ذلك «الآخر»، في مقابل ما أدعوه «التعاطف النرجسيّ» (تجاه أولئك الذين يشبهونا «نحن») بعد هجمات نيويورك، ستكون له عواقب حتميّة على الغرب حين يكون الأمر متعلقًا بالشرق «الأدنى»، وقد تكون هذه العواقب وخيمة.

لكنّ الخطاب ليس مجرّد قضية دلاليّة وحسب. إنّه خطاب يسعى إلى جعل حالة الاستثناء حالة طبيعية معتادة، رغم أنّها تدعى استثناء. وكلما طالت «الحرب» اكتسب هذا الاستثناء اعتياديّة أكثر. وإنّ الحرب على الإرهاب طويلة بطبيعة الحال لأنّها لا تستهدف دولة بعينها وهكذا فإنّها حرب لا تضع أوزارها بمجرّد إعلان هدنة مع الدولة المعنية أو التوصل لاتفاق سلام معها، أو إعلان استسلامها أو خضوعها للاحتلال، ولكنّها حرب تستهدف تنظيمًا متشعبًا لديه القدرة على إعادة تشكيل نفسه والعودة بمزيد من القوّة.

يجدر بنا أن نلاحظ مسار التحوّل من القاعدة إلى داعش بعد أن كان من المفترض أن يكون «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق» قد هزم في العراق بين العامين 2008 و 2010. ولكن ما دامت الحرب قائمة فسيبقى شبح التنظيمات الإرهابية قادرًا على النهوض من جديد ذلك أنّه يستقي قوّته من الحرب أصلًا. إنّ طبيعة هذه التنظيمات هي التي جعلت الكثيرين من الباحثين والمعلقين، الرافضين للحرب على الإرهاب أو المشجعين عليها على السواء، يتوقّعون بعد هجمات 11/9 أنّ الحرب على الإرهاب ستدوم عقودًا بطولها، ولا شكّ أنّ الأحداث المتتابعة تثبت صحّة ما ذهبوا إليه.

ثمّة لازمة في خطاب الحرب لا تفتأ عن الحضور: لقد قرر فرانسوا أولاند تمرير قانون لتمديد حالة الطوارئ ثلاثة أشهر، مع أنّ القانون قد حدّدها باثني عشر يومًا، كما أنّه يريد إعادة النظر في الدستور الفرنسي من أجل زيادة قائمة الاستثناءات التي تحدّ من القوانين التي تضمن الحالة الديمقراطيّة في البلاد.

ولعلّه من الضروريّ أن نذكّر هنا أنّ هذا الدستور قد أقرّ عام 1958 في أوضاع استثنائية وهو دستور ينصّ على إعطاء صلاحيات كبيرة للدولة في حالة التهديدات الخطيرة عليها ويتيح لها استخدام سلطات استثنائية (المادة 16) أو تقييد بعض الحريّات في التنقّل والسفر (المادة 36). وهكذا أطلقت الحكومة الفرنسيّة يدها الآن لترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من تجريد بعض الأفراد من الجنسية الفرنسيّة إن كانوا يحملون جنسيّة أخرى (وهذه هي حال معظم الفرنسيين من أبناء المهاجرين)، والاعتقال من دون توجيه تهم، ومنح صلاحيات واسعة للأجهزة الأمنيّة.

طبيعة هذه التنظيمات هي التي جعلت الكثيرين من الباحثين والمعلقين، (…) يتوقّعون بعد هجمات 11/9 أنّ الحرب على الإرهاب ستدوم عقودًا بطولها، ولا شكّ أنّ الأحداث المتتابعة تثبت صحّة ما ذهبوا إليه.

وهنالك ما هو أسوأ أيضًا. فبخلاف ما كان عليه الأمر في هجمات نيويورك، فإن منفذي هجمات باريس في كانون الثاني مطلع العام وفي تشرين الثاني مؤخرًا قد كانوا فرنسيين أو أغلبهم كذلك (ومن هنا ينبع التهديد فيما يتعلق بقضية الجنسيّة الفرنسيّة). وبما أنّ حالة الحرب هي في أصلها حالة استثناء، أي أنّها تعني تعليقًا لاحترام حقوق الإنسان، فإنّ هنالك اختلافًا نوعيًا في الآثار التي تترتب عليها، وذلك بالاعتماد على ما إذا كانت الحرب تشنّ خارج حدود البلاد أو ما إذا كان العدو متربّصًا في الداخل.

لقد كانت الولايات المتحدة قادرة على الرجوع إلى تعزيز الحقوق المدنيّة وذلك بفضل الموقع الجغرافي المتميّز الذي يجعل اختراقها أمرًا صعبًا، ولكنّها تعاملت وما تزال بحالة الاستثناء خارج البلاد، ولعل ازدواج المعايير الأمريكيّة يتجلّى مثلًا في الإصرار على عدم إغلاق معسكر غوانتانامو الذي يمثّل انتهاكًا للسيادة الكوبيّة ذلك أنّ الولايات المتحدة تنظر إليه على أنّه واقع خارج نطاق القانون، مع أنّه لا يبعد سوى مسافة قصيرة عنها. هذا النفاق ينطبق كذلك على ما يقع من قتلٍ للمدنيين وغيرهم باستخدام الطائرات الأمريكية من دون طيّار، حيث صار البنتاغون قاتلًا متسلسلًا من أوحش ما يمكن تصوّره.

ولكن ماذا عن فرنسا؟ إن قضية «الجهاديّة» ليست غريبة عن تاريخها. تعود معرفة فرنسا بالجهاد إلى غزوها الدمويّ للجزائر حين دخل الجيش الفرنسي تلك البلاد قبل قرابة قرنين، مع أنّ جهاد اليوم يختلف نوعيًا عمّا كان في السابق خاصّة في سمته العالميّة الحاليّة. كما واجه الجيش وقوات الأمن الفرنسية نوعًا من الجهاد في المواجهات التي كانت تخوضها جبهة التحرير الوطنيّ الجزائريّة، والتي كانت تصدر صحيفة بعنوان المجاهد.

وقد عمدت فرنسا في خضمّ انخراطها في تلك الحرب الكولونيالية القذرة إلى إقرار قانون عام 1955 يتيح لها فرض حالة الطوارئ. وقد كانت المرّة الأخيرة، قبل الأسبوع الماضي، التي فرضت فيها حالة الطوارئ في كامل فرنسا متعلقة بالظروف التي خلقتها الحرب في الجزائر، وكان ذلك بين العام 1961 و 1963. لقد حدثت في تلك الفترة فظائع رهيبة على الأرض الفرنسية في ظل حالة الطوارئ، عدا عمّا كان يرتكب من جرائم بشكل مستمرّ في الجزائر.

وفرضت حالة الطوارئ على أجزاء في فرنسا فقط في 8 تشرين الثاني 2005، أي قبل عشر سنوات من الآن. ولم تغب عن أحد في ذلك الحين ارتباط ما حصل بحرب الجزائر، فقد كان قطاع واسع من الشباب الذين شاركوا في أعمال الشغب في ضواحي باريس حينها هم نتاج التاريخ الاستعماري الفرنسي الطويل في إفريقيا.

وليس حال كثير من الجهاديين الفرنسيين في السنوات الماضية مختلفًا عن هذا، فهم شباب قد ولدوا في حالة من الحنق المتزايد الذي انفجر مرّة عام 2005 والآمال التي ماتت بعد إطلاق وعود لم تجد من يفي بها. إنّهم من الشباب الذين عانوا ما وصفه رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بلسانه في لحظة تجلّ سياسيّة عابرة في 20 كانون الثاني من العام الجاري، قائلًا إنّه: «أبارتايد مناطقي واجتماعي وعرقيّ».

يجب منطقيًا أن يترتب على هذا الاعتراف أن يجري التعامل مع الخطر الإرهابي على المستوى الداخليّ عن طريق ضمان حقوق المواطنين «من أبناء المهاجرين» وتحريرهم على الصعيد المناطقي والاجتماعي والعرقيّ وإنهاء جميع أشكال التمييز التي يعانون منها.

لا بدّ أن يرافق ذلك اتباع سياسة خارجية تبتعد عن الاعتماد على مبيعات الأسلحة والتبجّح العسكري بشكل يذكّر بالدولة الإمبريالية (بخلاف ما تقوم به ألمانيا رغم أنّها تتمتّع باقتصاد أقوى) وتلجأ بدلًا من ذلك إلى سياسة سلميّة تحترم حقوق الإنسان وتلتزم مواثيق الأمم المتحدة التي كانت فرنسا قد شاركت في صياغتها. هذا ما فعله وزير الخارجيّة السويدي، الاشتراكيّ الديمقراطيّ، حين قرر فرض حظر تمتنع بموجبه شركات الأسلحة السويديّة عن بيع الأسلحة للمملكة العربية السعودية.

ثم إنّ التعامل مع خطر الإرهاب يكون عبر تقديم الدعم الحاسم، من دون تدخّل مباشر، لأولئك الرجال والنساء الذين يحاربون من أجل الديمقراطية والتحرر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضدّ الأنظمة الاستبدادية، وهذا ينطبق على ممالك وإمارات النفط في الخليج كما ينطبق على الديكتاتوريات البوليسية.

لقد تمكنت ثورات الربيع العربي في العام 2011 من الحدّ من الإرهاب الجهاديّ لفترة من الوقت، ولكنّ فشل هذه الثورات، بتواطؤ من القوى العالميّة الكبرى، هو ما أتاح الفرصة لهذا التيّار للنهوض من جديد وبوحشية غير مسبوقة، مقتاتًا على حالة الإحباط واليأس وضياع الآمال.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية