الإهمال والتلصّص والصور المُسبقة: تحدّيات ترجمة الأدب العربي

الأربعاء 18 أيار 2016
arabic literature translation

الحديث عن الأدب العربي المترجم إلى الإنجليزية يستدعي إشارة ابتدائية مؤسفة تتعلق بهامشية حضور الأدب العربي في العالم، تشهد على ذلك جائزة نوبل يتيمة في الأدب حصل عليها نجيب محفوظ، وجهل شديد بأعلام الأدب العربي عالميًا، ونسبٌ بالغة الضآلة لعدد الكتب المنشورة مترجمةً عن العربية بالنسبة إلى إجمالي الكتب المنشورة في بلدان ناطقة بالإنجليزية مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا.

يستدعي هذا الحديث أيضًا ندرة شديدة لأية مبادرات عربية حكومية تعنى بترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية أو اللغات الأخرى؛ وفي حين تخصص حكومات ومؤسسات العديد من البلدان المنح والجوائز لتمويل وإنجاز ودعم الترجمة من لغاتها إلى اللغات الأخرى، لا يجد كاتب العربية أو المترجِم عنها ما يُسانده. فوزارات الثقافة في العالم العربي (ومثالها الفاقع: وزارة الثقافة الأردنية) تُفضل إهدار موازناتها المتواضعة على الإيجارات، ورواتب الموظفين الفائضين عن الحاجة، ومشاريع ذات طابع تنفيعي بهرجيّ لا يحقق قيمة أو تراكمًا ثقافيين (مثل مشروع المدن الثقافية، أو مشروع «غابة الإبداع» المُضحك المُبكي).

الترجمة كفعلٍ لرفع العتب

حتى عندما تقرر المؤسسة الرسمية العربية دعم الترجمة عن العربية، فكثيرًا ما تتم مقاربة الموضوع بشكل بدائي ساذج؛ فلا يتم التعامل مع مترجمين أدبيين متمكنين، ولا يخضع الكتاب للتحرير والتدقيق، والأنكى من هذا وذاك أن الكتاب المُترجم عن العربية يصدر من خلال دور نشر محليّة ليس لها وجود ولا إمكانيات توزيع في بلد اللغة المُترجَم إليها، فكتاب «مختارات من القصة القصيرة في الأردن» بالإنجليزية، صدر عن وزارة الثقافة الأردنية عام 1993، ولم أجد له أو عنه أثرٌ يُذكر لا في العالم الواقعي ولا في صنوه الافتراضي؛ فيما صدرت رواية تيسير سبول «أنت منذ اليوم» مترجمة إلى الفرنسية عام 2011، ومختارات بالإنجليزية لكاتبات من الأردن عام 2013، عن دار نشر أردنية؛ مما يطرح الأسئلة البديهية التالية: ما هو المغزى من نشر كتب بالإنجليزية والفرنسية داخل الأردن ومن خلال ناشرين محليين؟ هل المطلوب من الترجمة أن تعرّف القارئ المحلي بالكتّاب الأردنيين بلغاتٍ أُخرى؟ هل لدى وزارة الثقافة ودور النشر المحلية تاريخ طويل ومشهود له بتوزيع الكتب عالميًا؟ الأصل أن تنشر الترجمة من خلال دار نشر فرنسية (في حالة السبول)، أو دور نشر بريطانية أو أمريكية (في حالة كتب المختارات)، لتصل إلى الجمهور المستهدف، وتتحقق الغاية من ترجمتها، بدلًا من أن تظل حبيسة المستودعات أو توزَّع على جمهور يستطيع أن يقرأ الكاتب بلغته الأم.

حتى عندما تقرر المؤسسة الرسمية العربية دعم الترجمة عن العربية، فكثيرًا ما تتم مقاربة الموضوع بشكل بدائي ساذج.

رغم هذا لا يخلو المشهد من بعض المبادرات الأكثر جديّة مثل دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة، والجائزة المرتبطة بها (جائزة نجيب محفوظ)، لكن محدودية العناوين المنشورة سنويًا، والتركيز على الرواية، والاهتمام أكثر بالكتاب المصريين، ومشكلة التوزيع في «الغرب»، تضع الكثير من التحديات أمامهما. أما الشراكة التي قامت بين مؤسسة قطر ودار النشر البريطانية الكبيرة بلومبزري فانفكّت مؤخرًا، وتحوّلت إلى مشروع قطري كامل يحمل اسم دار نشر جامعة حمد بن خليفة، ورث عناوين المشروع السابق الإنجليزية القليلة (واحد وعشرون عنوانًا)، تركز بشكل شبه حصري على الرواية (19 عنوانًا من 21)، بعضها تجاري، وبعضها الآخر مرتبط بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، ويبقى أمامها أيضًا تحدي التوزيع في الأسواق العالمية، وهو تحدٍّ صعب.

الجوائز، الرواية، السلعة

تتعهد الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية، انطلقت عام 2007) بترجمة الرواية الفائزة كل سنة إلى الإنجليزية، وهي محدودة بهذا المعنى بكتابٍ واحد سنويًا فقط، يتم اختياره بشكل لا يبتعد كثيرًا عن معايير الجوائز الدارجة في العالم العربي، والتي غالبًا ما تخضع لاستحقاقات لا تتعلق بالقيمة الإبداعية للعمل أو فرادته الفنيّة أو جدّته، فبعض الروايات الحائزة على البوكر، أو تلك التي ترد في قوائمها القصيرة أو الطويلة، ضعيفة فنيًا، وكثيرًا ما يُراعى في اختيارها الاعتبارات الجغرافية، وجنس الكاتب، والعلاقات الشخصية مع أعضاء لجان التحكيم أو رعاة الجائزة، ورغبات المموّلين. أما آخر الإضافات على جوائز الرواية، فهي جائزة «كتارا» التي تعطى دفعة واحدة لعشرة روايات: خمسة منشورة، وخمسة غير منشورة، وتتعهد بترجمتها كلها إلى خمس لغات، منها الإنجليزية، وتحويل بعضها إلى أعمال درامية وأفلام؛ ولم يصدر من هذه الترجمات شيء حتى الآن.

يبدو الميل الشديد نحو الرواية واضحًا لا لبس فيه، وهو ميل يدفع الكتاب دفعًا إلى كتابة الرواية، ويدفع القراء إلى استهلاك المزيد منها، فتكون المحصلة أولًا زيادةً كمّية هائلة، نستدل عليها من حجم المشاركة في الجوائز (1004 مشاركات هي مجموع تلك المتقدمة إلى النسخة الثانية من جائزة كتارا)، وميل مستحدث لدى الكتاب لإصدار رواية واحدة أو أكثر سنويًا للتواجد في مواسم الجوائز؛ وثانيًا انحدارًا نوعيًا أكيدًا يؤدي إلى رداءة المتاح للترجمة من خلال هذه الجوائز، بما يضمن استمرارية الموقع الهامشي للأدب العربي في المشهد العالمي.

في مشهد الجوائز، هناك استثناء جيّد وحيد، من خارج العالم العربي، هو جائزة جامعة آركنسو للأدب العربي وترجمته، وتقدّم بالشراكة بين كلية جيه ويليام فولبرايت للفنون والعلوم فيها، ودار نشر جامعة سيراكيوز. هذه الجائزة مفتوحة أمام جميع الأجناس الأدبية من قصة وشعر وسيرة ورواية ودراما ومذكرات، وسيلاحظ من يستعرض قائمة الفائزين حجم التنوع، وانفتاح الجائزة على أشكال الكتابة المختلفة (فاز بالجائزة خلال السنوات الثلاث الماضية ثلاث مجموعات شعرية، وكتاب هجين بين القصة القصيرة وشعر النثر). لكن الجائزة محدودة بكتاب واحد (ونادرًا: اثنين) سنويًا، مما يعني أن حجم مساهمتها في رفد المشهد العالمي بترجمات عن الأدب العربي تظل قليلة، وإن كانت هامة.

ترجمة الصورة النمطية: الهتك وتعزيز الهيمنة والتفوّق

خارج طريق الجوائز، لا يصل إلى الترجمة بجهود الكِتاب الذاتية إلا الروايات التي حققت انتشارًا واسعًا في العالم العربي، وغالبًا ما تكون هذه من النوع التجاري، أو الـPage turner (أمثلتها: «بنات الرياض» لرجاء الصانع و«عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني)؛ أو الروايات التي مرّت في فلاتر الناشرين «الغربيين» وحازت على رضاهم شكلًا ومحتوى: على الشكل أن يكون سهل القراءة / سهل الاستهلاك، وعلى المضمون أن يُحقق مزيجًا من الإكزوتيكية، والتلصصيّة، والتصالحية (مع الماضي أو الحاضر الاستعماريين)، والدونية أمام «الغرب» و/أو تمجيد «قيمه» واستبطانها، وتقديم العالم العربي على أنه مساحة عارية من الحضارة، تشكل أرضًا خصبة لتوليد الإرهاب والعنف. وكثيرًا ما يجتمع العاملان معًا (كما في المثالين المطروحين أعلاه) لأن ميول السوق متقاربة «هنا» و«هناك».

الأدب الذي يستجيب للظرف الراهن بشكل سريع سطحي، انفعالي، ينتفي عنه العمق المرتبط بالكتابة المتمهّلة المتعمّقة التي يجب أن يكونها الأدب.

يقدّم هذا النوع من الكتابة تعزيزًا ذاتيًا لدى القارئ «الغربي»: فهو متقدّم وصاحب قيم (في مقابل همجيّة «الآخرين»)، ويشعره الأمر بالراحة والتفوّق (مقابل تخلّف «الآخرين»)، شيء سأسميه «أدب الـfeel good الاستعلائي» (مستعيرًا جزءًا من المصطلح من عالم الأفلام)، مضافًا إليه بعضًا من الفيتيشية الناتجة عن التلصّص الانتهاكي لمحرّمات الآخر (الحقيقيّة أو المتوهّمة) مثل عوالم النساء والمثلية الجنسية. كل هذا يضمن نسب بيع معقولة للكتاب ومردودًا تجاريًا يُبرّر النشر.

استكمالًا لهذه الصورة، سنجد أن الكثير من الروايات المترجمة عن العربية تتزيّن بأغلفة عليها وجه امرأة محجبة أو تلبس الخمار، بغض النظر عن المحتوى في بعض الأحيان. أما حالة كتاب المختارات (بالإنجليزية) من أدب المرأة في الأردن المذكور سابقًا، ورغم أن الكتاب منشور محليًا، إلا أنه يستبطن هذه النزعة الاستشراقية بشكل كامل؛ فالكتاب متعلّق بكتابة المرأة فقط دون الرجل: المرأة من حيث هي مجال محدّد للتلصص الانتهاكي «الغربي»، وحقل استشراقي خصب للهتك والاكزوتيكية؛ أما عندما ربط الأمر بالصحراء والصور المتولدة عنها (الجمل طبعًا، والبدو الغلاظ القساة، والعنف)، يتحقق لهذا المنظور العلامة الكاملة، فعنوان الكتاب الكامل: «من الرّحم المتكلّم للصّحراء: قصص قصيرة [لكاتبات] من الأردن».

وكثيرًا ما ترتبط الترجمات بالموسمية السياسية والأحداث الآنية، كنتيجة لاهتمام «الغرب» بالتعرّف على «الشرق» من خلال الأدب العربي الذي يَنظر إليه لا باعتباره فنًّا، بل باعتباره حقلًا لاستكشاف العلاقات والخصوصيات الاجتماعية، بحثًا أنثروبولوجيًا مُسليًا، بل إن كاتبًا كبيرًا مثل نجيب محفوظ نُظر إلى كتابته –في مرحلة ما- باعتبارها «المعادل الأدبي للبطاقات البريدية». وتُعتبر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحوّل في زيادة الاهتمام بالإسلام والعالم العربي (والصورة النمطية المتشكلة عنهما) ما زالت مستمرة حتى اليوم، في حين ولّد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 اهتمامًا بالأدب المرتبط بهذا الموضوع، وساهمت الانتفاصة المصرية عام 2011 بالاهتمام بالأدب الذي طُبخ بعضه على عجل ليستجيب لتلك اللحظة، في حين ساهمت المأساة السورية -وما تزال- بإبراز بعض الكتاب السوريين الذين سارعوا بالكتابة عنها وحظيت كتاباتهم بترجمة سريعة؛ أما الآن فسأتنبأ أن الناشر «الغربي» سيهتم بترجمة الأدب المتعلّق بالهجرة.

الأدب الذي يستجيب للظرف الراهن بشكل سريع سطحي، انفعالي، ينتفي عنه العمق المرتبط بالكتابة المتمهّلة المتعمّقة التي يجب أن يكونها الأدب؛ ولرغبة «الغرب» بالتعرّف على «الشرق» في قالب من العُجالة والتسلية، يصبح هذا النوع من الكتابة تعزيزًا للأفكار المسبقة، والرداءة النوعية، والضحالة، واستجابة ميكانيكية لرغبات «الغرب» ومتطلّباته.

ألف ليلة وليلة: القراءة بوصفها استمناءً

كثيرًا ما يردد الكتّاب أن «المحليّة هي بوابة العالمية»، وهو مفهوم ساذج –برأيي- يُخفي وراءه فكرةً متعلقةً برغبة «الآخر» الانتهاكية التلصصية. ضمن هذا المنظور، تسقط الكتابة من خانة الكشوفات الإنسانية، والفن، والتحريض على السؤال والبحث، لتصير نوعًا من الولوج في عوالم «عذراء»، تُحقق للقارئ نوعًا من النشوة الاستمنائية التخيّلية إذ يتناول التفاحة المحرّمة ويشاهد ما لن يُتاح له، وما لن يُتاح أيضًا لذاك «الآخر» الذي يقرأ عنه، فالمرأة (من كل زواياها) محرّمة عليه (على القارئ من الثقافة «الأخرى») وعلى أبناء ثقافة مصدر النص في آن معًا. هي متعة مزدوجة ناتجة عن استحالةٍ مزدوجةٍ تعزز الاستثارة والشعور بالفضح، وبالتالي الشعور بالهيمنة والتفوّق، والسعادة المشتقة عن كل هذا.

هذه القراءة الاستمنائية هي -برأيي- سبب احتفاء الغرب بحكايات ألف ليلة وليلة الذي يستمر ويتمدد إلى اليوم، ومن هذا النوع من القراءة، تُشتَقّ معايير ما يجب أن يُترجم، ما يُقبل وما يُرفض، ما يحتفى به وما يوضع على الرف ولا يُعترف به. شيء مثل هذا خلص إليه يوسف رخا في مقالته المعنونة «ألف حصاة وحصاة» التي وضعها في مفتتح العدد الخاص من مجلة «ذي كومون» الأدبية الأمريكية الصادرة عن جامعة آمهيرست، والذي خرج من المطبعة قبل أيام تحت عنوان «تجديد»، وخصص للأدب العربي المعاصر بعد أن حللتُ رئيس تحرير ضيف عليه. يقتبس رخا عن المترجم الألماني هارتموت فيندرش ما يراه الأخير سببًا لابتعاد «الغرب» عن الأدب العربي المعاصر: «أظن أن القراء يخافون أن يُدمّر هذا الأدب الصورة التي يحتفظون بها في أذهانهم عن ألف ليلة وليلة،» والتي (بعبارة رخا هذه المرّة): «لا يمكن لأي كتابة معاصرة اليوم [مهما كانت رديئة] أن تماثل السطحية، والشهوانية الفجة، والتهويم الذي بلا هدف، التي نجدها [فيها]».

سطحية النص، سهولة الترجمة

يساهم الشكل أيضًا، بصفته تعبيرًا عن الموضوع وعن المرحلة التاريخية التي تحدث فيها الكتابة، في اختيارات الترجمة: فتيار الموجة الجديدة للقصة القصيرة (يبدأ برأيي من زكريا تامر ويضم حيدر حيدر ومحمد خضيّر ومحمد زفزاف، مرورًا بمحمد المخزنجي، وصلًا إلى كتّاب الألفية الجديدة) يكتب انطلاقًا من أرض محروقة، من واقع مشظىً، من أحلام قُتلت وتَبدّدت، يحمل على ظهره تركة ثقيلة من الهزائم؛ يتجلّى هذا في الشكل الكتابي، فيصبح الميل إلى النص العمودي (الذي يغوص في العمق ولا يستكشف السطح) أكبر، وتبرز الهلوسة، والشخصيات والأماكن غير المرسومة بدقة، والزمن السائل، والركون إلى الإشارة والإحالة التلميح، والأحداث المفككة والغرائبية. هذا النوع من الكتابة الفنيّة ليس مقبولًا بشكل واسع لا في العالم العربي (عند جمهور قراء الوجبات السريعة وناشريهم)، ولا خارجه (عند الناشرين الباحثين عما يمكن أن يترجم). هذه الكتابة تسبق إمكانيات أكثر النقاد والقرّاء على حد سواء، ولا تتماشى ومعايير الجوائز (ليس ثمة جوائز مهمة للقصة القصيرة في العالم العربي، وستُنظّم هذه السنة، ولأول مرّة، جائزة «الملتقى» للقصة القصيرة في الكويت، وتتعهد الجائزة بترجمة المجموعة الفائزة إلى الإنجليزية)، ولا تتماهى مع اهتمامات السلطة الباحثة في المجمل عما يعزز هوية دولتها المفبركة، أو برستيجها الدعائي، أو حملاتها المتغيّرة كل حين على أعدائها المُتغيّرين بدورهم بحسب المرحلة (نلاحظ الآن الاهتمام الشديد بالكتابة التي تناول «الإرهاب» و«التكفير» و«التسامح» و«الاعتدال» و«الوسطية» و«القبول بالآخر»…الخ، وهي كتابة تتوسّل السلطة في المجمل، وتستجديها).

هذا الشكل الكتابي غريب أيضًا بالنسبة لجهات النشر في «الغرب». يصدق هذا القول أكثر على الولايات المتحدة حيث الكتابة أكثر ميلًا للتقليدية: تُصرف الكثير من الفقرات من أجل توضيح الشخصيات والأماكن، فتميل القصة القصيرة إلى الطول (المفرط أحيانًا) إذ تحاول «إفهام القارئ»، مقتربة بذلك من الكتابة الروائية، وهو ما استقيته أيضًا من تجربتي في رئاسة تحرير العدد الخاص من «مجلة «ذي كومون» الأدبية الذي تحدّثت عنه سابقًا: نقاشات طويلة خُضتها مع رئيسة التحرير الأصيلة للمجلة جينفر آكر، تتمحور كلها حول ميلها لتوضيحٍ أكثر للشخصيات و/أو الأحداث و/أو الأماكن، في مقابل إصراري على الإبقاء على هذه المساحات لخيال القارئ باعتبارها عنصرًا عضويًا من عناصر الشكل الكتابي الجديد، وعنصرًا أساسيًا حدّد خياراتي لنشر قصص مُجدّدة ومُبتَكَرة، تقع خارج مناطق الانتباه التقليدية المُعلّبة للناشرين في الغرب (وفي عالمنا العربي أيضًا، مع بعض الاستثناءات)؛ قصصٌ تقع خارج الأنماط المُتصوّرة مُسبقًا، قادرة على ابتداع الأشكال الفنية، وتقديم مقاربات معمّقة وفريدة وإنسانية الطابع للمواضيع التي تشتغل عليها. يدعم هذا ما قالته جينفر آكر ضمن حوار شاركتُ فيه إلى جوارها، سيُنشر قريبًا في صحيفة الرياض السعودية:

هناك فرق واضح بين ما نشرناه في هذا العدد، وما تنشره المجلة عادة بقلم كتاب أمريكيين. أهم فرق هو الواقعية، وطريقة تصوير الأماكن والأشخاص. في الولايات المتحدة، تسيطر الواقعية على التقاليد الأدبية والكتابية، فتخرج الشخصيات المتخيلة إلى الحياة عبر تضافر تفاصيل محددة مشابهة للحياة، متعلقة بكلامهم، وتصرفاتهم، ومظهرهم؛ وكذا الأماكن، فهي تُقدّم بشكل مفصّل وموحٍ. في القطع الأدبية العربية المنشورة في هذا العدد، هناك تركيز أكبر على تقديم الأوضاع المبتكرة، أوضاع غالبًا ما تكون خطرة، مستحيلة، أو من عوالم أخرى، ونلاحظ –داخل النصوص- أناسًا يعانون ويصارعون في بيئاتهم المحيطة، لكن بمستوى عالٍ من التخمين والتأمل يندر وجوده في الأدب الأميركي. أثناء تحريري لهذه القطع، كثيرًا ما كنتُ أقول لنفسي: لم أقرأ أبدًا شيئًا مشابهًا لهذه الكتابة.

سطوة السلطة والسوق، ومحاولات الاختراق

ثمة توقعات مسبقة لأشكال ومواضيع أدبية «مريحة»، ومنسجمة مع دور مُحدد مُتصوَّر سلفًا للكتابة في العالم العربي أو المُستحضرة منه. على الصعيد الداخلي، تتعزز الآن سطوة الجوائز والأنظمة الراعية لها، والتعهد بالبهرجة والنجومية والترجمة المرافقة لها، والتحولات الناتجة عن هذه السطوة الجديدة: الرقابة الناتجة عن متطلبات السوق والنجومية، والتي أضيفت إلى رقابة السلطة والمجتمع. هذا التأثير يدفع الكتابة الآن إلى المناطق المعقمة، المعيارية، الكميّة (على حساب النوع)، والشكليّة (على حساب المحتوى)؛ وعلى الصعيد الخارجي، يتعزز دور الطلب القائم على الصور المتخيّلة لـ«شرق» بتول، متخلف، عنيف، قمعي، ينبغي التلصص عليه لاستمناء قرائي سريع، وتعزيز الرضى عن الذات، وتأكيد الصورة المتخيّلة عن «الغرب» المتفوق.

بين هذا وذاك، يظل الرهان على الأدب الطليعي، ومبادرات الترجمة المستقلة (مثل «تجديد»، العدد الخاص من مجلة «ذي كومون» الصادر مؤخرًا)، ومواقع يقوم عليها صحفيون موضوعيون مُتحمّسون مثل «الأدب العربي (بالإنجليزية)»، لتحقيق اختراق، ولو بسيط.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية