مسرحية «طه» لـعامر حليحل: لا مكان للخيال لكن الخيال حاضر

الأحد 03 نيسان 2016

بقلم سارة القضاة

يعود بنا الممثل والمخرج والمؤلف المسرحي الفلسطيني عامر حليحل إلى فلسطين قبل ثمانية وستين عامًا من خلال قصة حياة الشاعر الفلسطيني الراحل طه محمد علي. هو لا يستحضر الأحداث على خشبة المسرح، لكنّه يأخذنا فعلًا إلى منزل «طه» في صفّورية، حيث الأحلام لم تكن تتسع عالم طه الصغير، والدهشة كانت حاضرة أبدًا في كل ما يسمع ويقرأ ويرى. «بقلم الرصاص/ الصغير هذا/ سأرسم الدنيا/ وأكتُبُ العالم/ أكتبُ الحب والموت/ أصوّر الحزن والضحك/ أصف الغِبطة والَرق والقرنفل/ وأحكي لإنسان/ عن أسطورته/ ../ يشجعني على ذلك/ أني رأيت مرّة/ في حائط سميك/ الأفقَ والبحر/ والسماء رأيتُها/ ووجه الله شاهدْتُه/ كما تُشاهد خاتمك».

يروي عامر في مشاهد متتالية سيرة حياة طه، من خلال موندراما مسرحية بحبكة وأداءٍ مكتملين. يقترب العرض إلى الحكاية أكثر منه إلى المسرح ويمزج بينهما، سواء من حيث طريقة السرد فيها أو الأداء المسرحي، إلا أن حليحل يرى أنها مسرحية «من ناحية أنها تستوفي شروط العرض المسرحيّ، ولكن هذا العرض المسرحي عن شخص حكواتي».

يُفكر حليحل قليلًا ثم يستدرك في حديثه لـ«حبر»: «القرار جاء بعرض المسرحية بهذا الشكل لأن طه كان حكواتيًا في حياته، كان يحب رواية القصص، وهذا منطق الشخصية»، لم تذهب بُنْية العمل إلى كل حدث وتفكفكها لتحوّلها إلى مشهد مسرحي، وإنما كانت الأحداث آنية يستحضرها طه، الذي يقوم بدوره حليحل، ويسردها علينا بشكل مباشر.

تبدأ المسرحية بمشهد طه وهو يروي ولادته، طه الأول مات ثم جاء الثاني والثالث، كلهم ماتوا، حتى جاء طه الرابع ليقول بصوتٍ تشوبه الضحكة «أنا أجيت عالدنيا غصبن عنها، مش بخاطرها، ما كان بدها ياني». هكذا يتذكر طه طفولته ويرويها لنا، يروي تفاصيل فلسطين النكبة التي كانت حكايته.

حليحل يشير إلى أنه في بداية التفكير في كتابة المسرحية «كان هناك طرح أن يبدأ طه شابًا ويكبر في المسرحية، ولكنني وجدتُ أن هناك ستين عامًا نريد أن نتحدث عنهم وهذا يصعب اختزاله في مسرحية، ومن هنا صار القرار أن يحكي طه قصته».

تُقنعنا المشاهد بحقيقيّتها، وتبهرنا عفوية الأداء، لا مكان للخيال لكن الخيال حاضر، حيث ينصهر الواقع بالمتخيل وينطلق المتلقي برحلةٍ خاصةٍ به يرسم فيها المشهد بألوانه، كل ما كان على المسرح بسيطٌ إلا العرض كله.

«كان من المهم بالنسبة لي، نظرًا إلى أن القصة حقيقية وتستند إلى الواقع، أن تكون بسيطة حتى لا تخدع المشاهد، وأن ينسى المشاهد أنه في عرض مسرحي ويندمج مع القصة، وأن يتم التركيز على مستويات النص مع الحدث وطريقة استحضاره وانتقاء المواد التي يقدمها المؤلف المسرحي». من شاهد العرض سيرى أن حليحل وفّق في مسعاه هذا، حيث تفادى أي عمل مشهدي من حيث الشخصيات، والمشاهد، والديكور يمكن أن يشكّل «تدّخل مؤذي سيثقل على العمل».

لم تكن هناك أصواتٌ أخرى في المسرحية غير صوت طه. يرى حليحل أن وظيفة المسرح اليوم «أن يشتغل على خيال المتلقي، المسرح هو القادر على محاربة شاشة الهاتف التي تحوي اليوم كل العالم، ويحارب على جبهتين، الأولى هي الحقيقة، والثانية تشغيل الخيال»، ويوضح أكثر «لو حددتُ صوت أميرة (حبيبة طه) سأكون قد ضيّعت على كل متلقٍ أن تكون «أميرته» الخاصة وقصته الخاصة، فكان لا بد أن يكون صوت طه متفردًا في العمل كما كان في الواقع».

يبدو المُتخيل في العرض ممزوجًا بصورة لا يُمكن فصلها عن الواقع، الأحداث في العمل كلها حقيقية، أما في بنية تفاصيل المسرحية فهناك ما هو مُتخيل من وحي واقعنا وتاريخنا: «المشاعر وردود الأفعال كانت أيضًا جزء من المتخيل، وجزءًا من شعوري بعلاقتي مع والدي».

المسرح، كما يقول حليحل، يترك لنا فرصة التخيل وتفريغ تراكماتنا الخاصة على النص الأصلي دون أن يدفعنا العمل باتجاه محدد، لأن تراكم المتلقي، والتشابه الذي يمكن أن يجده بين قصته والعمل هو ما يهم في المسرح. فالمتلقي شريك في العرض دون أن يكون شريكًا فيه».

في العرض نستمع لطه وهو يصف مشهد السخول الهاربة من صوت القذائف، تتسرب إلينا رائحة القهوة المتروكة على الحطب في المنزل الخالي من أهله، نتخيل نظرة طه المكسورة حين سأله والده عن «السخول الهاربة»، نسمعه يقول «لو إني توقعت السؤال من قبل كنت أجلت وصلتي سنين، سؤال أبوي مش مستني رد، سؤال ثقيل بهد جبل، وأنا مش جبل». نسمع كل هذا، ولكن ما يرسمه لنا خيالنا أكبر بكثير من مجرد كلمات حزينة وثقيلة. «في السينما حين نرى مشهدًا لسرب حمام كلنا نرى نفس السرب، ولكن في المسرح حين نقول سرب حمام، كل شخص يرى سرب الحمام الخاص به. ومن هنا تأتي أهمية المسرح» ومن هنا تظهر قدرة مخرجٍ عن مخرج، وإمكانات ممثلٍ عن ممثل.

لماذا طه محمد علي؟ «لأنني نتيجة هذه القصة وهذه النكبة اليوم بكل تفاصيلي، فهمت أن هذا النص، وقبل أن أفكر كيف سيكون على المنصة، يُعبّر عني وعن نظرتي ومراكمتي لقضيتنا». هذا ما دفع حليحل للبحث أكثر عن طه وتقديمه على خشبة المسرح:

«كنت مغرم بطه كشاعر، ولكن حين عرفت قصته وجدت أنها تشبه إلى حد كبير قصة جدي. أكثر ما يعيش فينا هو النكبة، وطه شاعر انتقل بهذه القصة إلى مكان جميل؛ (نحن لم نبكِ ساعة الوداع/ فلدينا لم يكن وقتٌ/ ولا دمعٌ، ولم يكن وداع/ نحن لم ندرك/ لحظة الوداع/ أنه الوداع/ فأنّى لنا البكاء)، لم يكتب شعرًا سياسيًا ولا شعر منابر، وتصالح مع حزنه والفقدان، وتحدث عنه بشكل منفتح وجميل».

أخذ العمل من حليحل ما يقارب العامين ما بين الإعداد والبحث والكتابة والإنتاج، واستند في البحث على كتاب بالإنجليزية للباحثة الأميركية أدينا هوفمان «فرحي لا علاقة له بالفرح» عن سيرة طه، ومن ثم كانت لقاءات مع العائلة والأصدقاء. واستطاع حليحل أن يُقارب لهجة طه، الذي لا نجد له فيديوهات منتشرة، من خلال إخوانه وطريقة حديثهم.

عُرضت المسرحية للمرة الأولى قبل نحو عامين، وعرضت في عمّان في مسرح البلد الأسبوع الماضي. سألنا حليحل، إلى متى سيظل مأسورًا بطه؟ «في حالتنا العربية لا توجد صناعة مسرح كثيفة لذا لا أعلم متى سأتوقف عن عرض طه، سأظل أعرضها حتى أشعر أنه لم يعد هناك طلب عليها. أحب النهايات كما أحب البدايات، ولكن الآن ما يزال هناك طلب عليها»، ويعمل حليحل الآن على إعداد نسخة إنجليزية من العرض: «من المفترض أن تكون جاهزة خلال أشهر، وأسعى من خلال العرض الإنجليزي إلى توسيع دائرة الجمهور والذهاب إلى جمهور لا يعرفنا».

ولد طه محمد علي عام 1931 في قرية صفورية الفلسطينية في الجليل، رحل عام 1948 مع عائلته إلى لبنان، لكنهم سرعان ما عادوا إلى الناصرة بعد وفاة «غزالة» شقيقته. لم يكمل دراسته الابتدائية، لكنه علّم نفسه بنفسه حتى صار يجالس كبار المثقفين وصار واحدًا منهم. صدر له: «القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى»، و«ضحك على ذقون القتلة»، و«حريق في مقبرة الدير»، و«إله.. خليفة وصبي فراشات ملونات»، و«سيمفونية الولد الحافي – ما يكون»، وقصص أخرى. وصدرت أعماله الكاملة عن دار «راية» للنشر 2011، وتُرجمت بعض قصائده إلى اللغة العبرية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية