نبض عالق في الهواء: مختصر حكاية المينيمالية الأميركية

الإثنين 18 تموز 2016

لم يكن غريبًا ظهور هذه الموسيقى في نيويورك تحديدًا، فهي مدينة كل ما فيها من شوارع وأبنية وشبابيك وحركة سيارات يشبه شبكة من الخطوط والمربعات المتماثلة التي تتكرر إلى اللانهاية. لكن المينيمالية تتجاوز كونها انعكاسًا لمدن كنيويورك، وتشكل اليوم واحدًا من أقوى التأثيرات في الموسيقى المعاصرة، وفي حياتنا اليومية.

المفهوم والجيل الأول

جاء مصطلح المينيمالية من كلمة Minimal، أي أدنى أو أقل، وهذا المصطلح لا يقتصر أبدًا على الموسيقى، بل يشمل حركة تشكيليّة ومعماريّة واسعة ازدهرت بشكل أساسي في أميركا منتصف القرن الماضي. ويمكن تعريف العمل الفني المينيماليّ بأنه العمل الذي يُخلَق من أقل ما يمكن من الموارد.

جاءت الولادة الرسمية للموسيقى المينيمالية في نيويورك على يد المؤلفين لامونتي يونج وتيري رايلي، اللذين تلقيا تعليمًا موسيقيًا صارمًا ما لبثا أن أهملاه عند تعرفهما على تجارب المؤلف جون كيج وعلى موسيقى إفريقيا وشرق آسيا، والتي تُشكّل المنبع الأساسي لأفكار المينيمالية.

جذبتهما الخواص التخديرية للموسيقى الهندية تحديدًا، والتي تماشت مع ذوق الستينيات. فذهل يونج من فكرة الصوت الذي يبقى عالقًا في الهواء دون أن يذهب من نقطة إلى أخرى في الزمن، واكتشف أن تجميد مجموعة نوتات متزامنة مثلًا، يؤدي إلى تغير إدراك المستمع لها مع مرور الوقت. أما رايلي، فقد لاحظ ظواهر مشابهة عند تكرار نبض موسيقي منمنم من ثلاثة أو أربعة نوتات متتالية مثلًا، وهو ما سيصبح مفتاح المينيمالية الأساسي.

لم تبشر أعمال رايلي ويونج في بدايتها بمدرسة موسيقية جادة، خصوصًا أن الكثير منها لم يُدوّن، وبقي مرتبطًا بالارتجال وبسياق المشهد البديل في مانهاتن، إلا أن الفضل يرجع لهما في تشكيل بوابة عبور لأفكار المينيمالية من الشرق إلى الغرب.

رايك وجلاس

أثناء دراسته في مدرسة جوليارد، رأى ستيف رايك أن الموسيقى اللامقامية التي تدرس في صفوف التأليف كانت مستوردة، وأن يأسها النابع من دمار أوروبا في الحرب يناقض متطلبات الواقع الثقافي الأميركي، وحاجته إلى لغة خاصة. هذه اللغة المنشودة، وجدها رايك وسط مانهاتن، وتبناها ليصبح الرمز الفكري الأهم في مسيرة المينيمالية، والمسؤول عن نقلها من سياق ردة الفعل إلى سياق الموسيقى الجادة.

طور رايك تجارب الجيل الأول بابتكاره تقنية المرحلية (Phasing)، وذلك عبر تشغيل شريطين مسجلين يكرران نفس الفكرة الصوتية المنمنمة قبل أن يبدأ أحدهما بالانزلاق عن الآخر بوتيرة شديدة البطء، مما يخلق ظواهر صوتية مثيرة للاهتمام. طبّق رايك اختراعه على أصوات سجلها في شوارع نيويورك، مثل عمله Come out الذي شكل تصريحًا سياسيًا واجتماعيًا، وتبشيرًا بطريق ثالثة بين صرامة جوليارد، وتجريبيّة وسط مانهاتن. كما استخدم التقنية ذاتها في مؤلفات بأداء حي مثل قطعته Violin Phase.

تُوصف غالبية الموسيقى الكلاسيكية بأنها روائية، أي أنها تعتمد على ألحان تتطور وتمر بذروات وانخفضات تشابه تحول الشخصيات في عمل أدبي، أمّا المينيمالية، فهي تهجر تلك العقلية، مرغمةً إيانا على إيجاد سلوك جديد للاستماع يقبل بها كحالة صوتية ساكنة دون اتجاه.

حافظ رايك على علاقة مباشرة بجذور المينيمالية، خاصة فرق الجاميلان الأندونيسية، التي ألهمت مقطوعته الأشهر «موسيقى لـ18 موسيقي». كما تتميز الكثير من مقطوعاته ببساطة المبدأ وقابلية التقديم دون الحاجة إلى آلات معقدة وتجهيزات باهظة، وهو بذلك يصيغ الجانب الديمقراطي للمينيمالية، والذي كانت الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة قد بدأت بتناسيه.

إن كان رايك المُنظّر الأساسي للمينيمالية بموسيقاه وكتاباته، فإن فيليب جلاس يشكل اليوم وجهها الأكثر نجومية. فبعد عودته من باريس للدراسة، وجد جلاس نفسه متأثرًا بكل ما هو متكرر ومنمنم كالموسيقى الهندية والزخرفة الإسلامية. كما ابتعد عن ديناميكية رايك وتعقيده الإيقاعي وحبه للصق الطبقات المختلفة فوق بعضها وزلقها عنها، وتبنى لغة أكثر تبسيطًا تكاد تقتصر على آربيجات -أي مجموعة نوطات مشتقة من سلم ما- تكرر نفسها بقوالب متشابهة، أحيانًا بمرافقة ألحان بسيطة.

هذا التبسيط، منح جلاس جمهورًا أوسع من جمهور رايك الذي ظل نخبويًا إلى حد ما، كما ساعده على تخطي المسارح إلى أفلام هوليوود وألبومات الروك، مما دفع البعض إلى اتهامه بأخذ الموسيقى الكلاسيكية نحو اتجاه تجاري لا يمانع بإنزال معاييره في سبيل السوق، بينما فضل آخرون رؤية ذلك كانتصار لها وللمينيمالية.

الجدل المطول حول مكانة جلاس لا يختلف كثيرًا عن الجدل حول لوحة مدهونة بلون أو لونين تباع بملايين الدولارات، فطبيعة لغته المبنية على كليشيهات هارمونية جاهزة لا تقدم أي جديد، لكن أهمية جلاس ربما تكمن هنا تحديدًا في اكتفائه بهذه الصيغ المُسبقة الصنع رغم كامل وعيه بنمطيتها، وفي جرأته على بناء أدب موسيقي كامل منها.

مع تطور أسلوب رايك وجلاس، طرح غياب اللحن والاتجاه من الموسيقى المينيمالية إشكالية تلحين الكلام، والتي حاول كل منهما التعامل معها بطريقته. فبينما طور رايك منهجًا عكسيًا لاستنباط موسيقاه من الإيقاع الطبيعي للكلام بعد تقطيعه، جرب جلاس عدة أساليب منها جعل الكلام محكيًا فوق الموسيقى، كما في أوبراه «آينشتاين على الشاطئ».

راديكالية المؤلفين كلفتهما الكثير، إذ ظل جلاس يعمل بالتمديدات الصحية حتى بعد شهرته، بينما اشتغل رايك سائق أجرة، ولم تبدأ نيويورك بأخذهما على محمل الجد إلا في السبعينات، حين بدأت الطلبات تنهال عليهما من المسارح ومؤسسات الفن الحديث ليصبحا حتى اليوم موضة أساسية في المشهد الثقافي المعاصر للمدينة، وللعالم.

آدامز وما بعد المينيمالية

عام 1987، بدأت الصحف تتحدث عن منعطف جديد تعيشه المينيمالية على يد مؤلف شاب لا يمانع بتوسيع مفرداته والتنقل بين الأساليب المختلفة بسهولة من يقلب التسجيلات على جهاز آيبود.

حدث ذلك في سان فرانسيسكو بعد تجربة متواضعة لأوبرا «نيكسون في الصين» للمؤلف جون آدامز (1947-). حيث تروي الأوبرا قصة زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون التاريخية عام 1972، وتستحضر صورًا مطبوعة في ذاكرة الأميركيين، كالمصافحة بين نيكسون ورئيس الوزراء الصيني، أو السيدة الأولى بات نيكسون التي غزت صورها الصحف وهي تتجول بمعطفها الأحمر في عمق الصين الشيوعية.

لكن الأوبرا جاءت أبعد ما تكون عن مجرد سرد لتلك الأحداث الرسمية، وشكلت محاولة بحث عن الإنسان المُغيّب خلف شخصيات تحولت إلى رموز مسطحة في الجرائد والشاشات. حيث يظهر أشخاص مثل نيكسون وكيسينجر عن طريق تشريح نفسي ونص مسرحي ذكي، كبشر لديهم شكوكهم وتناقضاتهم، والحرب الباردة كأنها مسرحية دمى وقعوا فيها بالخطأ.

تبدو موسيقى آدامز معقدة أمام إخلاص سابقيه العقائدي لنقاء المينيمالية، أما إشكالية التلحين، فقد حلها أحيانًا بتقطيع الجمل إلى قطع مفتتة ومفهومة في الوقت نفسه، بل وتكتسب أحيانًا معانٍ إضافية عن طريق الصمت المفروض بين الكلمات، والذي تملؤه الأوركسترا بتعليقات ذات معنى. يظهر ذلك منذ الأغنية الأولى التي يفتتحها نيكسون بتكرير كلمة «الأخبار» بطريقة روبوتية قبل أن يتممها إلى جملة مفهومة، وبينما يؤكد قائلًا «أعرف أن أميركا جيدة في صميمها»، تنفي الأوركسترا ذلك بموسيقى غير واثقة.

تنتقد «نيكسون في الصين» طرفي الصراع وعبثية إيديولوجياتهما وسط إنسانية أصبحت مغربة عن نفسها، وتعود أهميتها لقدرتها على صناعة دراما حقيقية من موضوع خال من أي شاعرية، فمع وصول الأوبرا إلى مشهدها الأخير، يجلس كل من الشخصيات وحيدًا في غرفته، وتكون الدراما قد تصاعدت إلى تأمل مقلق حول البشرية والتاريخ.

كتب آدامز على هامش الأوبرا عمله الملحق «الرفيق يرقص»، في إشارة إلى ماو تسي تونج، رئيس الصين والحزب، والذي تتخيله زوجته وقد نزل من صورته المعلقة في مكتبه ليرقص معها. يبني آدامز على لغة الأوبرا، فيستخدم نبضًا مستمرًا لتمرير عناصر مختلفة مثل مقام صيني، أو رقصة فوكستروت من شباب نيكسون في الثلاثينيات، دون أن يعبر أي من العنصرين عن نفسه بلحن مكتمل بالمعنى الحقيقي، وهو بذلك يبسط الفكرة إلى تلميح متحفظ يدل على الشيء دون أن يشير إليه في وجهه. وفي الخاتمة، تتلاشى الرقصة شيئًا فشيئًا إلى صمت ثقيل، تاركةً صوت أسطوانة فارغة تحتك مع إبرة فونوجراف عتيق؛ مجاز لعودة السيدة الأولى إلى الواقع بعد سهوتها الحالمة.

عام 2002، كتب آدامز عمله «حول ارتحال الأرواح» لذكرى ضحايا هجمات 11 إيلول. يبدأ العمل بتسجيل لصوت نيويورك تدخل عليه الأوركسترا والجوقة بشكل خافت، تتبعهما مجموعة أصوات خفية تتلو أسماء الضحايا. يصور آدامز الحادثة مثل حلم مزعج يتراوح بين الصفاء والذعر، وهو بذلك يتحرر من سكون المينمالية الأولى، وينجح بخلق مرثاة رمزية ومينيمالية عاطفيًا تكتفي بما قل ودل، وتثبت عصريتها بالابتعاد عن المزاودة والابتذال.

اعترف آدامز بالغنى الهائل للأوركسترا، بعد أن كان المينيماليون قد تجنبوها إلى حد ما، مما صبغ أعماله بطيف لوني واسع. أما الأناقة التي تميز أعماله، فتنبع من براعته في التلميح، وعنايته بالتفاصيل الصغيرة التي راحت لدى سابقيه ضحية للأفكار الكبيرة. فإن كانت المينيمالية تقوم على التكرار، فإن آدامز قد أنقذها من تكرار تكرارها هذا إلى اللانهاية، عبر خياله الواسع بشكل أساسي.

أعادت المينيمالية نفض الغبار عن أشكال قديمة كالأوبرا، ودفعت بالموسيقى نحو اتجاه غير متوقع، كما وصلت إلى أوروبا بسرعة غير مسبوقة، وولدت تيارًا قويًا على يد مؤلفين مثل آرفو بيرت ومايكل نيمان. وبالرغم من تراجع المينيمالية الصرفة على طريقة جلاس ورايك، إلا أن الأفكار المينيمالية ظلت تشكل حضورًا أكبر بكثير مما نتخيل في محيطنا اليومي، سواء كان ذلك في الأفلام ووسائل الإعلام، أو في الموسيقى الأكثر عامية كالتكنو والترانس، دون الحديث عن العمارة والتصميم.

قد يبدو القول بأن المينيمالية تعيد خلق عالمنا «بأقل ما يمكن من الموارد» تصريحًا ساخرًا على عدة مستويات، ومُقلقًا إلى حد ما، لكن هذا جزء طبيعي من بحثنا المستمر عن لغة تبقى جديدة لأطول وقت ممكن، ربما لنهرب من أن نصير نحن أنفسنا جزءً من الماضي الذي نحاول الانشقاق عنه.

*يزن اللجمي: موسيقي سوري يدرس قيادة الأوركسترا في فرنسا.
«صول» هي زاوية شهرية تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية