«ميوزات» حديثة: التأثر في الشعر الحداثي بين القلق والإبداع

الخميس 10 تشرين الثاني 2016
الشاعران محمود درويش وتي إس إليوت.

تأثروا قدر الإمكان بالفنانين الآخرين، ولكن دعوا عندكم من اللياقة ما يكفي إمّا للاعتراف بفضلهم بصراحة أو لمحاولة إخفاء ذاك التأثّر.
إزرا باوند1

لقد كفَّ الشعراء عن استحضار آلهة الإلهام (الميوزات) أو شياطين الشعر لكتابة قصائدهم. ففي عالم الحداثة وما بعدها تتزاحم الأفكار وتتدفّق بشكل لا متناهٍ، وحتمًا لا تولد هذه الأفكار من العدم، فالمعنى يتأثر بوعي أو دون وعي بالأفكار المتراكمة التي أصبحت شبكة معقدة تشكلت على مر العصور. وبهذا، صار من الصعب فصل الأفكار وإعادتها إلى أصولها. ورغم توافر الأفكار وسهولة الحصول عليها إلا أن الإبداع والكتابة الأصيلة همٌ ووهمٌ لدى الكتاب الذين يكافحون من أجل التخلص من التأثر الذي يطاردهم من قبل سابقيهم. وهذا ما يجعل بعض الكتاب يعتزلون القراءة فترة طويلة قبل المباشرة بكتابة عمل جديد.

ولكن هل نستطيع التخلص تمامًا من الآخر وأفكاره الذي تسكننا؟ لا سيما أن لغتنا مشبعة بوعي أو دون وعي منّا بالآخر؟ يقول هارولد بلوم إن «كل قصيدة هي سوء فهم لقصيدة أخرى أصلية»2، ثم يردف قائلًا إن «الشعر هو قلق التأثّر ومهارة الإخفاء، وهو انحراف منضبط عن المعايير الرائجة. فالشعر هو سوء فهم، وسوء تفسير ومزاوجة غير موفقة»3. يتضح هنا أن لا مفر مما أسماه بلوم «قلق التأثر» الذي يعيق الإبداع. أما بالنسبة للنقاد والشعراء الحداثيين، فإن الكاتب يستطيع أن يخلق الإبداع من هذا التأثر، فنحن نقرأ شكسبير في أعمال تي إس إليوت، ودانتي في أعمال إزرا باوند، والمتنبي في أعمال محمود درويش، والقائمة تطول، دون أن ينتقص التأثر من حصافة النص وجدّته.

فها هو «بروفروك» بطل قصيدة تي إس إليوت «أغنية حب إلى ألفريد بروفروك» يقع في سرداب السؤال الشكسبيري الوجودي نفسه الذي طرحه هاملت «أن تكون أو لا تكون»، والذي يجدده محمود درويش في «مديح الظل العالي». ومع ذلك، فالقارئ يدرك السياق المختلف لكل ذات شعرية؛ وهو الفرق الذي يؤكده بروفروك بقوله: «كلّا! أنا لستُ الأمير هاملت، ولم ينبغِ لي أن أكونه». وبذلك، يضعنا بروفروك في متاهة البحث عن أوجه التشابه أو الاختلاف بين الشخصيتين اللّتين تجمعهما مشاعر الحيرة والضياع. وسواء إن ارتأى القارئ تفسير نفي بروفروك بالمعنى الحرفي للنفي، أم بنقيضه، فإن القارئ لا يستطيع فهم شخصية بروفروك بمعزل عن هاملت بالرغم من كون الأول رمزًا مجسدًا لشخصية الفرد الحداثي التائه الذي لا يمثل كينونة واحدة مطلقة. فمنذ بداية القصيدة ينغمس بروفروك بالحديث مع أناه المنقسمة، كما يناجي هاملت نفسه حين يسأل سؤاله الشهير أو «السؤال الطاغي» كما يشير له بروفروك.

هذه الأنا الحداثية المتعددة هي ما يجعل من التناص مشروعًا مختلفًا عن التلاص، فالأنا ليست مفرغةً من رواسب الآخر، وهذا ما يعقّد الكينونة التي لم تعد خاضعة لثنائية أن تكون أو لا تكون. وكذلك النص، لا يقبل أن يكون نصًا لكاتب واحد دون أن نقرأ فيه أفكارًا عديدة لمن سبقوه من الكتّاب. فالقارئ الحداثي يدرك بشكل أو بآخر أنه كاتبٌ آخر للنص، الذي وصفه رولان بارت بأنه قابل للتعديل (writerly text) لا نصًا مقروءًا فحسب (readerly text). إن تعقيدات الشخصية الحداثية تجعل بروفروك ينفي قدرته على كتابة سيناريو لمشهد مسرحي يعكس الحقيقة من خلال ردود فعل الجمهور كما فعل هاملت. فالنص الحداثي لا يولّد مشاعرَ محددة يشترك بها الجمهور. وهنا يشير إليوت إلى تأثره بهاملت من خلال التلميح (allusion)، وفي مواضع أخرى يدرج الشاعر حالات من التناص (intertextuality) المتواري في القصيدة دون الحاجة إلى التوثيق كما هو الحال في الأبحاث الأكاديمية مثلًا.

ففي التناص، يستخدم الكاتب فكرة سابقة في سياق جديد، وبذلك تفتح هذه الفكرة للقارئ آفاقًا لم تكن متاحةً في النص الأصلي، بعكس التلاص الذي ينقل الفكرة كاملة بقصد السرقة الأدبية دون أن تترك وقعًا مختلفًا أو تخلق مدارك جديدة. ومن الطبيعي أن يكون الفارق بين الحالتين معقدًا خاصةً مع صعوبة الوصول إلى قصد الكاتب، ولكن يبقى النص هو المرجع الأساسي للقارئ أو الناقد الذي يحاكم شرعية التناص من خلال رصد ضرورة اقتران النص بالاقتباس والجديد الذي يقدمه النص بعد هذا الاقتران. فقصيدة إليوت المذكورة تتضمن أسطرًا مترجمة من نصوص أخرى، مثل اللازمة: «النساء في الغرفة، يذهبن ويأتين، يتحدثن عن مايكل آنجلو»، والمترجمة بشكل حرفي من الشاعر الفرنكوفوني الأوروغواني جول لافورغ (Jules Laforgue) الذي قال عنه إليوت «أول من علمني الكلام، من علمني الاحتمالات الشعرية لعباراتي»4. يقول لافورغ في قصيدته «النساء في الغرفة، يذهبن ويأتين، يتحدثن عن أسياد سيينا»5. ولكن إليوت لا يأخذ السطرين الشعريين فحسب بل يدمجهما في إيقاع قصيدته لتصبح تلك النساء شخوصًا مؤثرةً في حياة بروفروك.

فهل التأثر قلقٌ يتوجب على الكاتب إخفاؤه أم إبداع على القارئ المتوقّد تعيينه وتقديره؟ بالنسبة لأبرز نقاد الشعر الحداثي، وعلى رأسهم إزرا باوند، فإن التأثر يُغني التجربة الشعرية ولا ينتقص منها. فموهبة الكاتب ترتكز على مخزونه الفكري الذي تكوّن من خلال قراءاته وتجاربه مع الآخرين. ويعتبر محمود درويش واحدًا من أبرز الشعراء العرب الذين استوعبوا تجربة الحداثة الغربية واعتبروا التأثر بالتلميح أو التناص إضافة للنص الشعري، وهذا ما لم يتقبله بعض القراء والنقاد ممن اعتبروا التناص في الشعر، نوعًا من السرقة الأدبية وهذا -وفقًا لمفاهيم الحداثة- بعيد كل البعد عن قصد الكاتب. يقول درويش مثلًا في «الجدارية»: «لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة»، وهذه الفكرة تعود إلى قصة عودة لعازر (أو لازاروس) من الموت، وهي قصة مذكورة في إنجيل يوحنا، وظفها دانتي أيضًا في «الجحيم» في شخصية جويدو:

ولو أني اعتقدت أن إجابتي كانت لشخص سيعود إلى الدنيا أبدًا،
لبقيت هذه الشعلة دون أن تحرك ساكنًا؛
ولكن لمّا لم يكن قد رجع أبدًا من هذا العمق إنسان حي، إذا صح
ما أسمع، فإني أجيبك دون أن أخشى سوء السمعة.6

وكذلك فإن نموذج العودة من الموت يتكرر في قصيدة إليوت التي تبدأ باقتباس أسطر دانتي، ومرةً أخرى حين يقول بروفروك: «أنا لعازر أعود من الموت، أعود لأخبركم الحقيقة كاملة، علي أن أقولها كاملةً». في كل هذه النصوص يلاحظ القارئ حوارًا بين إمكانية العودة من الموت واستحالتها. وهذا يعني أن إعادة استخدام النموذج الأصلي (archetype) في سياقات مختلفة، يفتح الآفاق للقارئ حسن الإطلاع الذي يقرأ النص كباحث وكاتب يملأ الفجوات التي يتركها الكاتب الأصلي، وهذا ما يضع على كاهل القارئ عبئًا بدلًا من أن يقدم له الكاتب المعنى مباشرة. فعقل القارئ الحداثي شبكة أفكار مرتبطة تؤدي إحداها إلى الأخرى إلى ما لا نهاية، وكلما زادت هذه الارتباطات زاد إعجابنا بالشاعر بالضرورة. فالقارئ للشعر الغربي مثلًا، يدرك كم كان درويش متعمقًا في قراءاته. ومن ذلك قوله في «الجدارية»:

ولا
تضعوا على قبري البنفسج، فهو
زهر المحبطين يذكر الموتى بموت
الحب قبل أوانه.

وهذا سيعيد إلينا قصيدة كرستينا روزيتي والتي تبدأها بالقول:

حين أموت، يا أحبائي
لا تغنوا لي أغانٍ حزينة؛
ولا تزرعوا زهورًا على رأسي،
ولا شجرة سروٍ ذات ظل:
كونوا أنتم العشب الأخضر فوقي

كذلك قوله «عندما كنت صغيرًا وجميلًا…» في قصيدة «إلهي أعدني»، فهذا السطر هو بادئة وعنوان لقصيدة الملكة إليزابيث «When I was fair and Young»، لكن سياق القصيدتين مختلف تمامًا. كذلك تأثر درويش بألفرد لورد تنيسون عندما أخذ عنه سطرًا كما هو من قصيدة «آكلو اللوتس» ، و «Let what is broken so remain» وترجمه إلى «دع كل ما ينهار منهارًا» في قصيدة «مديح الظل العالي». عدا عن تأثره بباوند في الأسطر «كأنَّ قلبي زاهدٌ ، أَو زائد/ عني كحرف الكاف في التشبيهِ» من «الجدارية»، وهي الفكرة التي دعا إليها باوند في حركته التصويرية التي تعتَبِر أحرف التشبيه زائدة في المقارنة التي يجب أن ترتقي إلى صورة مكثفة. وكذلك استخدام درويش لكلمة «إلخ» التي تبدو غريبة في سياق شعري «لا بابَ للبابِ لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي، إلخ.. إلخ»7. فقد سبقه في استخدامها باوند حين كتب8 «…Oh, Woe, woe, woe, etcetera».

كما يشابه جو قصيدة درويش «نهار الثلاثاء والجو صافٍ» إلى حد بعيد قصيدة «الأرض اليباب» لإليوت فمثلًا في قصيدة درويش نقرأ:

هناك فتىً يدخل الآن
باب الحديقة،
يحمل خمسًا وعشرين زنبقةً
للفتاة التي انتظرته
ويحمل عني فُتُوَّة هذا النهار.

أما في قصيدة إليوت تقول العاشقة:

قدّمت لي ورد الخزامى لأول مرة منذ سنة؛
ونعتوني بفتاة الخزامى.
ومع ذلك حين عُدتَ، متأخرًا، من حديقة الخزامى،
يداك مليئتان، وشعرك مبلّل، لم أستطع
التحدّث، وفشلت كذلك لغة العيون، لم أكن حيةّ ولا ميتة، ولم أعرف شيئًا،
متمعنةً بقلب الضوء، الصمت.

كما أن «رمية النرد» في قصيدة درويش الشهيرة «لاعب النرد» مرتبطة بقصيدة مالارميه «رمية النرد». وهنالك أيضًا العديد من الأمثلة الأخرى. كل هذه الأفكار المتشابهة لم تكن توارد خواطر، ولا سرقةً أدبية فهي نصوص عالمية معروفة لا يستطيع الشاعر إخفاءها.

هذا التداخل في الأفكار ما هو إلا عبقرية الشاعر الذي يكتب نصًا يخاطب فيه النصوص الأخرى ويعي أن النص ليس جامدًا بل منساب لا يمكن فصله أو عزله، فقد يوجد المدلول في نص مختلفٍ عن ذاك الذي يكون فيه الدال، لأن النص في عملية حوار دائمة مع النصوص الأخرى. يقول باختين9 في هذا السياق: «في الديالوجية (Dialogism) تكمن القدرة على امتلاك الوعي في الغيرية (Otherness)». فلا يرى باختين الذات دون الآخر لأن علاقتهما متشابكة، وحوار النصوص ما هو إلا تُزاوِجُ النصوص المختلفة لتنسجم في إيقاع واحد. فما التأثر إلا انسجام يحققه الكاتب بدمجه في إيقاع النص ليحدث تجانسًا ووقعًا مختلفًا عن ما سبقه من نصوص.


 

1. Ezra Pound. (1954), Literary Essays of Ezra Pound, T. S. Eliot (ed.), London: Faber and Faber. P. 5.
2. Bloom, Harold. The Anxiety of Influence: A Theory of Poetry. 2nd ed. Oxford: Oxford UP, 1997. P. 94.
3. Ibid., 95.
4. Eliot, T. S.1951. «Talk on Dante.» The Adelphi, 2. Vi, First Quarter. P. 107.

5. أي أسياد الفن في عصر النهضة، بمدينة سيينا في وسط إيطاليا.
6. دانتي. الكوميديا الإلهية. ترجمة حسن عثمان. الطبعة الثالثة. دار المعارف. (النشيد 27 / ص 357).
7. «أربعة عناوين شخصية».

8. «Song in the Manner of Housman».
9. Holquist, Michael. (1990), Dialogism Bakhtin and his World. London and New York: Routledge. P.18

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية