باخ في الأردن: كريم سعيد مؤديًا «تنويعات غولدبرغ»

الأربعاء 13 تموز 2016
كريم سعيد karim said

«إذا كان هناك موسيقى أعظم من هذه، فإنني لا أعرف ما هي».

هكذا وصف العازف الأمريكي روبرت فايرخ «تنويعات غولدبرغ» ليوهان سيباستيان باخ، العمل الضخم الذي ألفه باخ عام ١٧٤١ قبل وفاته بتسع سنوات، والذي يعتبر أحد أعظم الأمثلة على أعمال التنويعات (variations) في تاريخ الموسيقى. بالنسبة لكثير من الموسيقيين، تحيط هذا العمل هالة من القدسية والغموض والصعوبة التي تجعل تناوله أمرًا صعبًا يؤجله الكثيرون أو يتجنبونه تمامًا، ليس فقط بسبب طوله وصعوبته التقنية والذهنية الهائلة، بل بسبب محتواه الفني الغني الذي يجعل منه رحلة روحانية يصعب إتمامها. «أداء تنويعات غولدبرغ أشبه بتسلق قمة إفرست»، هكذا كتبت العازفة جويس ليندوف. لكنها رحلة تستحق المشقة وتكافئ مؤديها ومستمعها.

يوم السبت ١٦ تموز، على مسرح المركز الثقافي الملكي، سيقدم لنا عازف البيانو الأردني المتميز كريم سعيد فرصة نادرة لاختبار هذا العمل في أداء حي للمرة الأولى في الأردن.

«لطالما حلمت بأداء هذه المقطوعة في الشرق الأوسط»، يقول سعيد، الذي نشأ في عمان ودرس الموسيقى على يد الأستاذة أغنس بشير، قبل أن ينتقل في عمر الحادية عشرة إلى لندن ليتم دراسته في العزف على البيانو والتأليف وقيادة الأوركسترا بمنحة كاملة في مدرسة بورسيل العريقة ثم في الأكاديمية الملكية للموسيقى. وقد تتبع المخرج كرستوفر نوبن تطور كريم الموسيقي خلال سبع سنوات في فيلم وثائقي أنتجته البي بي سي بعنوان «رحلة كريم»، حاز على جائزة في مهرجان باليرمو للأفلام.   

يقيم سعيد في برلين ويقدم الحفلات حول العالم، وقد عزف تحت قيادة المايسترو دانييل بارنبويم في مسارح مرموقة كألبرت هول اللندنية، ولا سكالا في ميلان، وصالة تشايكوفسكي في موسكو. ويغادر سعيد بعد حفله في الأردن إلى الولايات المتحدة، حيث اختير بين ٣٥ عازفًا من جميع أنحاء العالم (من أصل ٣٣٠) للمشاركة في مسابقة كليفلاند الدولية للعزف على البيانو.

أن يتناول عازف في العشرينيات هذا العمل يفصح عن نضج موسيقي غير عادي. يلمس المرء في خيارات سعيد الموسيقية وفي أدائه شخصية متفردة وموسيقيًا متكاملًا يجمع أعلى مستويات التقنية الفنية بعمق التفكير، ويخاطب بثقة وإقناع عاليين من خلال باخ وبيتهوفن كما من خلال شونبرغ وبوليز.

يحيط الشك بالأسطورة المتداولة حول نشأة «تنويعات غولدبرغ»، والتي سجلها المؤرخ فوركل في أول كتاب سيرة لباخ عام ١٨٠٢. تروي القصة أن الكونت هرمان كارل فون كايسرلنغ، والذي كان سفير روسيا لدى بلاط درسدن، كان يعاني أرقًا مزمنًا. وفي إحدى زياراته للايبزغ بصحبة عازفه الخاص الشاب الفائق الموهبة يوهان غولدبرغ، الذي كان طالبًا لدى باخ، طلب الكونت من المؤلف أن يقدم له مقطوعات تكون «من الرقة والمرح بحيث ترفه عنه في تلك الليالي الساهدة». استجاب باخ بتأليف لحن «آريا» وثلاثين تنويعًا عليه، في سلم صول ماجور البهيج. وبالفعل، بحسب القصة، تولّع الأمير بالمقطوعة، مكافئًا باخ بمئة قطعة ذهبية، ومن يومها صارت كل ليلة يستعصي عليها النوم معناها: «عزيزي غولدبرغ، اعزف لي واحدة من تنويعاتي».

يشكك الكثير من علماء الموسيقى بمصداقية هذه الرواية، خصوصًا أن النسخة الأصلية للمقطوعة تخلو من أي إهداء. لكن مع ذلك، التصق اسم غولدبرغ بهذا العمل إلى يومنا هذا. هذه التنويعات الثلاثون ليست مشتقة من اللحن نفسه، بل من صوت الباص الذي تبنى عليه التتابعات الهارمونية، كمان كان شائعًا في عصر الباروك. يرتب باخ التنويعات في بناء أنيق من عشر مجموعات، يضم كل منها تنويعًا بوليفونيًا (متعدد الأصوات)، و«أرابيسك» عالي التقنية يظهر مهارة العازف، و«كانون»، أكثر أشكال التأليف البوليفوني صرامة. وضمن هذه الأشكال الثلاثة، يأخذنا باخ في رحلة هي أشبه بمرآة لعصره، نمر فيها على أهم القوالب والأساليب الموسيقية المعروفة في النصف الأول من القرن الثامن عشر. فهنا رقصة «جيغ»، وهنا فوجة، وهنا افتتاحية فرنسية جدية. ومن التنويعات ما هو احتفالي بهيج، ومنها ما هو متأمل، ومنها ما يعبر عن أعمق مشاعر الحزن والرثاء.

استهوى هذا العمل الكثير من الدارسين الذين حللوه نغمة نغمة، وما زال يذهل الموسيقيين ببنائه الدقيق والعلاقات الرياضية المخفية في أبعاده، لكنه في نفس الوقت موسيقى تلامس الروح. وهنا تكمن عبقرية باخ وبصمة العمل العظيم، «أن يجمع بين منطق لا يقبل المساومة وأكبر طيف ممكن من المشاعر»، كما يقول سعيد.

لا تخلو المقطوعة كذاك من روح الفكاهة. ففي التنويع الأخير، بدلاً من الكانون المتوقع، يركب باخ فوق لحن الباص خلطة ذكية من الأغاني الشعبية الألمانية الطريفة التي لا بد أنها أضحكت من تعرّف عليها في ذلك الوقت. «الملفوف واللفت هجّجوني بعيدًا. لو أن أمي طبخت اللحم لكنت بقيت»، تقول كلمات أحد الألحان التي أدخلها باخ ببراعة داخل نسيج المقطوعة. وقد كان ارتجال هذه الأغاني بوليفونيًا فوق بعضها البعض لعبةً موسيقية مفضلة لدى عائلة باخ، بحسب فوركل.    

كتب باخ هذا العمل في الأصل لآلة الهاربسيكورد، وبالتحديد تلك التي تحتوي على لوحتي مفاتيح، لذا فإن أداءها على البيانو الحديث يفرض صعوبات مضاعفة، منها مشكلة تقاطع اليدين وتداخلهما بسبب اشتراكهما بلوحة مفاتيح واحدة. «البيانو الحديث آلة مختلفة تمامًا»، يقول سعيد، «لذا فإن أي أداء لهذه المقطوعة على البيانو هو بالضرورة إعادة توزيع للعمل». لكنه يرى في ذلك عالمًا مثيرًا من الإمكانيات، بسبب الطرق المختلفة التي يستطيع بها البيانو أن يعزز عالم الصوت والشخصية الموسيقية الفريدة لكل من التنويعات.

استخدم باخ هذه التنويعات في تدريسه لطلابه كتمارين، وبقي هذا العمل مجهولًا لقرون. فمع أننا نبجل باخ اليوم كأب للموسيقى، إلا أنه كان مغمورًا في حياته، معروفًا في أوساط ضيقة كمعلم وعازف أورغن أكثر منه كمؤلف. «فكرة أن يُعزف هذا العمل في حفل عام لم تكن لتخطر أبدًا ببال باخ»، يقول سعيد. «لذا فإن في أداء هذه المقطوعة لذة خاصة، وخصوصًا هنا في الأردن».

إلى جانب تنويعات غولدبرغ، التي ستشكل النصف الأول من الأمسية، يشمل الحفل أيضا سوناتة برامز الثانية، وفانتازيا في سلم لا ماينور لوليام بيرد، أحد أهم مؤلفي عصر النهضة.

سجل سعيد مؤخرًا أسطوانة بعنوان «أصداء من إمبراطورية»، أشاد بها النقاد من صحيفة الغارديان ومجلة الغراموفون، يتناول فيها موسيقى لبيرغ، بارتوك، ياناتشك، فيبرن، إنسكو، وشونبرغ، ضمن ستة أعمال فريدة سبقت انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية. وقد أسس سعيد عام ٢٠١٣ مجموعة «عازفي دا فنشي» المكرسة لأداء موسيقى الحجرة والمجموعات الصغيرة من جميع العصور، يقودها سعيد من البيانو.

يقام الحفل يوم السبت ١٦ تموز، الساعة الثامنة مساءً، على مسرح المركز الثقافي الملكي، بتنظيم من أصدقاء مهرجانات الأردن. مزيد من التفاصيل هنا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية