الخطاب الهستيري في الكتابات النسويّة: «عيون بهية» لأليفة رفعت مثالًا

الأحد 05 تموز 2015
اللوحة للفنان المصري عبد العال حسن.

أتمنّى أن أفعل كل ما أود  فعله خلف ستار الجنون.
فريدا كاهلو

لا شيء يبدو أكثر إرباكًا لمجتمعات ذكورية من امرأة تمسك قلمًا و تدوّن تجربتها. تلك ردةُ فعل متوقعة، فالكتابة صوتٌ يهدّد الخطاب الذكوري الذي طالما كان يعزفُ منفردًا. بطبيعة الحال، لا يريد الرجل الذكوري للخطاب اللغوي الذي يمنحه القوة و السلطة أن يُفلت من قبضته، لذلك يصفُ الكثير من الرجال أي خطاب يتنافى مع خطابهم المهيمِن بالجنون أو الهستيريا التي تُلصَق عادةّ بالتركيب النفسي للمرأة. فكلمة هستيريا هي كلمة إغريقية تعني الرحم، حيثُ كان يُعتقد أن الهستيريا مرضٌ خاص بالنساء فقط، لذا فإنّ كلمة هستيريا بحد ذاتها مثيرة للشكوك كمعيار يضعه الرجل لفرض هيمنته على المرأة ورفضها بوصفها مضطربة غير متزنة،  وهذا ما دفع بعض الكاتبات مثل جورج اليوت وتشارلوت برونتي إلى توقيع روايتهن بأسماء ذكورية ليقينهن أن لغة المرأة محكوم عليها بالجنون والهستيريا قبل أن تُقرأ، ببساطة لأنها ليست لغةَ الرجل المهيمِن.

قسّم المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان الخطاب إلى أربعة أنواع هي: خطاب السيّد، وخطاب الجامعي، وخطاب الهستيري، وخطاب المحلِّل. و بناءً على تصنيف لاكان، يكون خطاب الهستيري شكلًا من أشكال التمرّد على خطاب السيّد الذي يملكه الرجل عُرفًا.  من هذا المنطلق تصبح كلمة هستيريا مرادفة لأي خطاب معارض للخطاب السائد، وبالتالي فهي شكلٌ من أشكال المقاومة.

كيف تستطيع المرأة أن تمثّل نفسها بعيدًا عن الأدوار النمطيّة التي تتقمصها الشخصيات النسوية في الكثير من كتابات الرجل؟

ما يجعل الكتابات النسوية أكثر تعقيدًا هو إجبار المرأة على العمل ضمن الشروط اللغوية التي وضعها الرجل بالأصل، كونه يهيمن على اللغة بفعل تتابع المجتمعات الذكورية. هذه الحالة تخلق خطابًا تُسمّيه إلين شوولتر الخطاب ثنائي الصوت (Double-Voiced Discourse). تقول شوولتر أن المرأة أنثى وترفض الخطاب الأنثوي في آنٍ واحد، فهي تخلق في رواياتها عالمًا وترفض هذا العالَم ذاته من خلال فعل الكتابة السلطوي الذي يعدُّ فعلًا ذكوريًا لامتلاك الرجل خطاب اللغة. وبناءً على تحليل شوولتر، تسعى المرأة في كتاباتها إلى تفكيك وزعزعة استقرار النمط اللغوي الذكوري المتعارف عليه عن طريق استعمال لغة الرجل نفسها، فالمرأة إن صح التعبير تقوم بمهنة «الاقتطاف» (Bricolage)ء1 كونها تستعمل أدوات الرجل نفسها لمقاومة هيمنته، كونها الأدوات الوحيدة المتاحة لها.

إذن، كيف تستطيع المرأة أن تمثّل نفسها بعيدًا عن الأدوار النمطيّة التي تتقمصها الشخصيات النسوية في الكثير من الأحيان في كتابات الرجل؟ تسعى المرأة إلى إيجاد بنية سردية تمكنها من إيصال مكنونات النفس الأنثوية وتستطيع -بالرغم من كونها عالقةً في خطاب الرجل- أن تعيد النظر في فهم المجتمع الذكوري للمرأة وقضاياها، وهذا يُلقي على كاهل الكاتبة عبئًا مضاعفًا. لذا، تستخدم المرأة نمط السرد من خلال الرسائل  أكثر من الرجل، وهذا جليٌّ على سبيل المثال في رواية «اللون الأرجواني» لأليس ووكر (1982). كذلك تستخدم المرأة الكتابة الاعترافية أكثر من الرجل، و هو نمط أبدعت فيه الكاتبة سيلفيا بلاث. تفضّل المرأة هذه الأنماط لأنها تخلق جوًّا حميميًا بين الكاتبة والقرّاء أكثر من الطرق السردية التقليدية.

أمّا الكاتبة المصرية أليفة رفعت في قصتها «عيون بهيّة»، فاختارت أن يكون السرد ذا تركيز بؤري داخلي (Internally Focalized)ء2 على شخصية البطلة بهيّة. فبهية تسعى جاهدةً أن تسرد لابنتها تجربتها كاملةً منذ الطفولة إلى أن أصبحت عجوزًا فقدت بصرها. وهذا النوع من السرد لن يستمع له الرجال الذين قد يصفونه بالعاطفي ببساطة لأنه يركز على المشاعر الإنسانية بدلًا من القضايا السياسية والاقتصادية «الكبيرة» التي يزعم الرجل امتلاكها.

ما تأسف له بهية في السرد ليس كونها امرأة، بل كونها لم تعش حياتها كامرأة. قصة بهية إذًا تسلط الضوء على الفرق بين الجنس والجندر الذي أشارت إليه سيمون دي بوفوار بوصفها أن الجنس هو العامل البيولوجي أما الجندر فهو العامل الثقافي. وهذا يعني أن معاناة المرأة لا تنبع من تركيبة جسدها البيولوجية، بل من الثقافة الذكورية المفروضة عليها. قد يبدو الخطاب في قصة «عيون بهية» عاطفيًا ولكن ليس بهدف التباكي على المرأة كضحية للمجتمع الذكوري، بل لخلق لحظة تطهير لمشاعر القراء ليستطيعوا من خلالها نقل بؤرة العدسة إلى ابنة بهيّة التي لا زال المستقبل ينتظرها. فهنالك حوارٌ بين الأم والابنة وآخر بين الأم (الراوية) و القراء لمنع تكرار معناة المرأة ذاتها مع الجيل الجديد.

قد تكون قصة أليفة رفعت موجهة لجمهور مزدوج أي للرجال و النساء على حد سواء، ولكن القارئة تشعر أن هناك حوارٌ خفي بينها و بين الكاتبة.  فأليفة رفعت تعي أن المجتمع الذكوري لا يعني أن كل الأمور تسير لمصلحة الرجل بفعل الرجال فحسب، بل تُساعد كثير من النساء على أن تؤول المصالح إلى نصاب الرجل، ففي «عيون بهية»، تقوم نساء القرية لا رجالها بختان الطفلة بهية. من خلال هذه الأحداث تأمل رفعت أن تواجه المرأة ذاتها وتعي أهمية دورها في تخليص النساء من معاناتهن.

ما تأسف له بهية في السرد ليس كونها امرأة، بل كونها لم تعش حياتها كامرأة. 

يتزامن فقدان بهية التدريجي لبصرها مع استعادتها لبصيرتها الداخلية والوعي بمعاناتها. فهي لم تستطع خلال شبابها نزع القناع الذي يفرضه عليها مجتمعها الذكوري أو الخروج عن النص المفروض عليها.  لكنها -وإن كانت فهمت المؤامرة الذكورية متأخرةً- لن تستسلم، بل ستزعزع ما تعارف عليه المجتمع من تقاليد بشأن المرأة عن طريق سرد حكايتها لابنتها بإخلاص. فالسرد بالنسبة إلى بهية شكل من أشكال المقاومة والتمرد على الواقع و هذا ما يجعل شخصيتها في القصة كرنفالية (carnivalesque)ء3. فالشخصية الكرنفالية، كشخصية المهرج في مسرحيات شكسبير، تمرر خطابًا مغايرًا لخطاب السيد بلغتها الخاصة، وهي بالنسبة للشخوص الأخرى لغة جنون لا تؤخذ على محمل الجد.

تؤكد المحللة النفسية جوليت ميتشل أن باستطاعة المرأة التعبير عن أنوثتها ضمن حيز الرجل، فمكانها في «الكرنفال» يقوّض المجتمع الذكوري ويغيّر في بنيته مع مرور الوقت واستمرار فعل المقاومة.  فبنية أي مجتمع ليست حقيقة ثابتة بل هي في حالة تغيير دائم إذا ما توفرت مقوّمات ذاك التغيير.  وهكذا يتحوّل صمت بهية الذي استمر طويلًا إلى فعل مقاومة ودعم لمشاعر الأختيّة (Sisterhood) لإنقاذ من يمكن إنقاذهن من النساء المضطهدات. فبهيّة ترفض أن تعيش ابنتها الانتحار المجازي الذي عاشته.

يقول تشارلز بوكوفسكي «بعض حالات الانتحار لم تُسجَّل»، وهذا ما ينطبق على حياة الكثير من النساء في المجتمعات الذكورية.  فقد عانت بهية كالكثير من النساء من الختان والزواج التقليدي و قسوة المجتمع الذكوري بعد أن أصبحت أرملةً و لم تستطع أن تستمتع بروحها أو بجسدها كامرأة، لكنها قررت في النهاية أن تقاوم ولو كانت هذه المقاومة من مكان مهمّش بعيد عن المراكز التي يتبوّؤها الرجال.  قصة «عيون بهية» هي مقاومة عن طريق الرد بالكتابة (Writing Back) على المجتمع الذكوري الذي حرم بهيّة، هي رمزٌ للكثير من النساء، من حرية الاختيار وجردها من حقها في كل أنواع المتعة.


1- مصطلح استعمله البنيويون مثل كلود ليفي ستروس ومن بعده جيرار جينيت، وهو يعني العمل ضمن الأدوات المتاحة.
2-  المصطلح للمنظر الفرنسي جيرار جينيت.
3- نمط أدبي يخرج عن الأسلوب المهيمن عن طريق الفوضى أو الفكاهة، وكان الأديب والناقد الروسي ميخائيل باختين أول من استخدم المصطلح في هذا السياق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية