أطياف للتواصل في شارع الثقافة

الأحد 05 حزيران 2016

بعيدًا عن صالات العرض ذات الجدران البيضاء، للفن مجالات أخرى وبيئات حاضنة تجريبية مختلفة. هذا ما دفع المُقيمات الفنّيات تولين توق ونورا الخصاونة لبدء مشروع «جلسات الربيع» ربيع عام 2014. «جلسات الربيع» هو برنامج إقامة فنية بتوجه تعليمي تجاربي يعتمد على اكتشاف العمليّات الإبداعية بوسائلها المختلفة.

على مدى 15 أسبوعًا، يطرح العاملون الثقافيّون، مهما كانت خبرتهم، تساؤلات مختلفة حول المسلّمات في الحياة اليومية لتكون المحرك الأساسي لجميع ورشات العمل والنشاطات الأخرى التي يُيسّرها فنانون محليون وأجانب. هذه التساؤلات تشجّع المشاركات والمشاركين على البحث والتحقيق في أفكار متعلّقة بالجلسات لخلق ومشاركة آفاقهم وأعمالهم الفنّية.

انطلاقًا من البحث المستمر عن خصائص الحياة الحضريّة وتجريب ما هو غير مألوف سعيًا لتوسيع ما تشمله دائرة الفن المعاصر في عمّان، جاءت نسخة هذا العام في موقعين مختلفين في المدينة، الأول هو الموقع الدائم للبرنامج في مساحة «مكان» السابقة في جبل اللويبدة. والثاني، وهو الموقع المؤقت لنسخة هذا العام، في شارع الثقافة في الشميساني. يعكس اختيار الموقعين الرغبة في التفكّر في المدينة، حيث لكل منهما خصائصه الحضريّة وأصداؤه الثقافية الفريدة، مُهيئًا بذلك محاولات لاستكشاف وفهم المدينة بكافة سياقاتها وأوجهها الثقافية المتعددة كخطاب معرفيّ عام.

في ذلك السياق جاءت ورشة العمل «أن نصبح غرباء»؛ آخر ورشات عمل البرنامج، لتُبرز التساؤل الذي طرحه المصمّم باهباك هاشمي- نزهاد مُيسّر الورشة: هل علينا أن نفرّق بين إشارات الثقافة في المساحات العامّة وبين ثقافة هذه المساحات؟ جاء هذا التساؤل في محاولة لإرباك الفهم الآلي لدى المشتركين للتصرفات اليومية في المساحات الحضرية؛ فلا شي هنا قد يؤخذ كأمر مسلّم به، والعناصر التي ذابت في خلفيّة مشاهد حياتنا اليومية أو على هوامشها ما هي إلّا مصادر للتساؤل عن السياقات المختلفة في شارع الثقافة، سواء اجتماعية أو سياسية أو فراغية. وعبر طرح تلك التساؤلات، سنصل إلى سؤال أساسي: هل يمكننا رؤية المدينة كما لو كنّا نراها للمرّة الأولى؟

شخصيًا، لم يكن شارع الثقافة يومًا على خريطة الأماكن التي أرتادها في المدينة، ولطالما أحسست بأنه مساحة تخلو من الحياة. «شارع الثقافة» هو الاسم الذي أطلق على شارع «11 آب» سابقًا في عام 2002 على هامش تسمية عمّان عاصمة للثقافة العربية.

في مساحة عامة كشارع الثقافة، لن يحدد الخطاب الرسمي طبيعة تفاعل الناس في يومهم العادي مع الشارع.

خلق افتتاح المشروع وقرار تغيير اسم الشارع عائقًا في التواصل مع المكان الذي تربطني به علاقة من الحنين، وذلك لوجوده في منطقة الشميساني السكنية ذات المطاعم والبارات المحلية التي كانت تعكس هوية عمّان الحديثة في الثمانينيات. ربما كان الحنين هو ما منعني من التواصل مع تلك الساحات العامة ذات الهوية الصرحيّة وألوانها القاتمة ونوافيرها التي تخلو من المياه.

جاءت الورشة بطبيعة الحال لتعيد تعريف العلاقة بيني وبين الشارع والمنطقة بشكل جديد ومختلف. فبدأت باستيعاب وملاحظة الفراغ في الشارع، وتجربة حركة المشاة التي لا تختلف عن تلك في شوارع المدينة ذات الأرصفة المهترئة. أصوات أغاني السيارات شبه معدومة خلال ساعات النهار، أو ليالي منتصف الأسبوع، وحتى الأشجار في الشارع لا تشبه بهويتها أشجار المدينة المبعثرة على أرصفتها أو من خلف أسوار بيوتها.

كان التساؤل عن الثقافة كعملية بناء وليس كمنتج نهائي يراودني دائما خلال فترة مشاركتي في الورشة؛ فالشارع من ناحية فيزيائية هو أقرب إلى دار عرض بلا سقف، إلا أن حدوده واضحة المعالم. فالجدران البازلتية الضخمة التي تنتشر في شارع الثقافة تؤكد على احتوائها للمكان، وحجمها يوحي بأنها صرحٌ مبالغٌ في حجمه.

أما الفعاليات الثقافية التي تحدث في الشارع فغالبًا ما تكون عروضًا فلكلورية أو مهرجانات كتبٍ ومعارض صور لفنانين محليين، مؤكدةً على الخطاب الرسمي للمنتج الثقافي المحلي الذي يربط دائمًا بالهوية الوطنية المؤسساتية.

ولكن، في مساحة عامة كشارع الثقافة، لن يحدد الخطاب الرسمي طبيعة تفاعل الناس في يومهم العادي مع الشارع، وهنا تتشكل الفكرة الرئيسية للعملية الثقافية وهي: حرية الخيار والقرار في التمثيل الثقافي في المساحات العامة، حيث لم تمنع الجدران القاتمة الأطفال من إعادة استخدامها كأسطح إضافية للعب. أمّا ميلان الشارع فحفّز مجموعة من الذين يمارسون التزلج على الألواح على استغلال المساحة كحلبة مريحة ممارسين فيها هوايتهم بعيدًا عن تدخل السيارات في تحديد شكل حركتهم.

إذًا، الممارسات اليومية للمستخدمين هي من تُحدد الهوية الثقافية للشارع، مُمثلةً بأصوات الأطفال أو الشباب المبحلقين في شاشات هواتفهم الذكية حتى مرور فتاة أو شاب يلفت أنظارهم، وغيرها من أشكال التفاعل اليوميّ مع الشارع.

في الورشة كان هناك مرحلتان رئيسيّتان، الأولى تدوين الملاحظات وتوثيق التجارب الشخصية للمشاركات والمشاركين في الشارع عبر تأمل مشهد معيّن وتدوين تفاصيله وأحداثه، مُلحقةً بمشاركتها كتابةً على ألواح الزجاج لتخلق أول تدخل تفاعليّ بيننا كمشاركين وبيئة الشارع المبنية.

بعد سرد الشارع بإثنين وعشرين طريقة وزاوية مختلفة قام/ت بها ٢٢ مشارك/ة، أصبحت الجدران البيضاء هي وسيلة التفاعل بين زوار الشارع اليوميين من أهالي المدينة والمشاركين، فقد قام بعض من رواد الشارع بإضافة كتابتهم وأفكارهم وقصصهم. عندها أحسست أن لهذا الشارع كغيره من شوارع المدن أوجهًا غير مكتشفة لا تنتهي، ووجودنا كورشة عمل فنية هو جزء من التواصل المطلوب في خلق أي مساحة عامة يلتقي فيها المتناقضون، ليتواصلوا باختلاف لغات تواصلهم وتعبيراتهم المتنوعة.

ترجمت كغيري من المشاركين تلك السرديّات الفردية إلى تحديات جماعية، حيث قمنا كمجموعات بإعادة صياغة المشاهدات وتفاصيل الشارع المتنوعة إلى تفاعلات مباشرة وتدخلات أدائية مدت جسور التعارف بيننا كغرباء، وبين الشارع كحاضن فعّال خلق بعدًا آخر لحدوده الملموسة.

جاءت التحديات كطيف بدأ باستكشاف الأوجه الحسّية للشارع كالتواصل مع سطوح الأرضيات بشكل أدائي، أو فهم أنواع الحركة في تلك البيئة المبنية؛ كتتبع حركة الطيور في السماء وتوثيق مساراتها، إلى إعادة صياغة قضايا تتعلق بالجندر، والسلوكيات العامة في الشارع، مثلما حدث عندما قامت مُشاركات بقيادة السيارات مُستمعات لموسيقى مستلهمة من الشارع مُمارسات ما تُشرّعه ذكورية مجتمعاتنا ومساحاتها العامه لرجال مدينتنا وتستهجنه من النساء.

في المرحلة الثانية من الورشة أنتجنا تجاوبات مرئيّة عن الشارع وأوجهه الثقافيّة المتعددة، حيث عكست المحاولات البحثية مواضيع محددة من قبل المشاركين تبعًا لفهمهم ونظرتهم الشخصية والجمعية عن الشارع كمحاولات لإعاده صياغة الثقافة في تلك المساحة من المدينة.

تارة يظهر الشارع كمنصة إبداعية تحولت بفعل بعضهم لمسرح لعرض أدائي أو أوركسترا تعزف الموسيقى مستخدمة موادًا من الشارع نفسه كمحاولة لملء فراغ في الهوية الفنّية المتوقعه من شارع يسمى بشارع الثقافة. آخرون قاموا بتحويل الشارع إلى مؤسسة عامة، تتطلب كادرًا إداريًا متواضعًا يلتقي الناس في أوقات مختلفة ساعيًا لإرضائهم وسماع شكاويهم، معلنين بشكل ساخر مشكلة أساسية في شارع الثقافة وهي سيطرة الخطاب الرسمي على نوع الثقافة المُتاحة فيه.

وبمحاولاتٍ أخرى لإعادة تشكيل وفهم صوت مُستخدمي الشارع، قامت مُشاركاتٌ بتحويل الشارع إلى ملهىً ليلي كبير يُحاكي شارع الهرم في القاهرة للدلالة على وجهة أخرى من الثقافة الموجودة والرئيسية في ساحة واحدة تحوي على جوانبها وفي شوارعها الفرعية أكثر من خمسة ملاهٍ ليليّة.  

المواد المصورة التي تم إنتاجها خلال الورشة عُرضت مساء يوم السبت 21 أيار في شارع الثقافة. وكان الحضور متنوعًا وغنيًا، من أصحاب المحلات إلى المارة من العائلات أو الشباب والمهتمين بالشأن الثقافي وممثلين عن أمانة عمّان وبعض رجال الأمن، ليشكلوا جميعًا صورةً واضحةً عن إمكانياتٍ للتواصل والتفاعل في مساحات المدينة العامة كشكلٍ من أشكال تغيير صورة المألوف في المشهد الثقافي المحلي وإعادة استخدام المدينة بصور تشبه أفكار سكانها وأنماط حياتهم، خالقةً مشهدًا جديدًا للهوية الثقافية في مدينةٍ تتأطر فيها وتُهيمن بعض الأصوات على الأخرى.

*الصور أعلاه التقطها مشاركون ومشاركات في الورشة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية