المخصيون: موسيقى تجمع فظاعة الدموية والروعة الفنية

الإثنين 14 آذار 2016
castrati

تستقبل قاعة الأوبرا بطل العرض في ظهوره الأول على المسرح، يتوجه الشاب الذي تغطي وجهه المساحيق نحو الجمهور لأداء أغنيته الأولى، ولكن بمجرد أن يفتح فمه، وبدلًا من صوت الرجل الذي نتوقعه اليوم، يخرج صوت صبيٍ صغير؛ وخلال دقائق قليلة، يقوم ذاك الرجل/الصبي بإذهال الحضور بعذوبة غنائه، وببراعته التقنية التي تسمح لصوته بالتأرجح المستمر بين الشيطاني والملائكي.

كاستْراتو (Castrato) بالمفرد -أو كاستْراتي (Castrati) بالجمع- هو مصطلح إيطالي يُطلق على هؤلاء المغنين، وتعني «المخصي»، إلا أن هذه الكلمة لم تكن لتُستخدم وقتها في القرن السابع عشر بغرض الشتم أو التجريح، فبعكس ما نتخيل اليوم بمعاييرنا. لم يكن أولئك المغنون في أوروبا موضع سخرية أو نوعًا من الكوميديا، وإنما عاشوا مجدًا يتجاوز الخيال، وكانوا على درجة من الشعبية جعلتهم أول نجوم في التاريخ بالمعنى المعاصر للكلمة.

على الرغم من أن الإخصاء أمر مألوف تاريخيًا، إلا أن بداية ممارسته لأسباب موسيقية ما تزال ضبابية، أما انتشاره الحقيقي في الغرب والذي بدأ في ذروة عصر النهضة، فقد ارتبط بمجموعة أسباب متداخلة أبرزها التشريع الإنجيلي: «قبيح بالنساء أن تتكلم في كنيسة»، والذي منعت الكنيسة على إثره النساء من الغناء في جوقاتها، وحتى من اعتلاء بعض المسارح، مفضلةً الاستعاضة عنهن بالأطفال لملء الفراغ الصوتي في الطبقات الحادة. ومع تطور الموسيقى والحاجة لمغنين أكثر خبرةً من الأطفال، بدأ «استيراد» الكاستراتي من إسبانيا لأسباب يُرجّح البعض ارتباطها بالأندلس، حيث شكّل «الخصيان» جزءًا مألوفًا من بلاطات الدول العربية-الإسلامية.

كانت العملية تُجرى على الأطفال في عمر يتراوح بين السابعة والحادية عشرة سنة، حيث يؤدي استئصال الخصيتين بعد تخدير الطفل إلى توقف هرمون التيستستيرون ومعه نمو الحبال الصوتية وتفاحة آدم، وبالتالي كان الكاستراتو لا يدخل في البلوغ، محافظًا بذلك على صوته الصبياني. وبعد تدريبٍ موسيقيٍ شاق، كان الصوت الناتج أكثر قوةً ومرونةً مما يمكننا تخيله اليوم، كما كان ذلك الاضطراب الهرموني يؤدي إلى شحوب وجوههم ونمو أجسادهم بنسبٍ غير طبيعية؛ حيث تستطيل عظام القفص الصدري لتمنح الكاستراتي مرونةً وقدرةً تنفسيةً خارقةً للعادة، مما يجعل أصواتهم تختلف عن أصوات الأطفال أو حتى النساء.  

الصعود والنهاية

على الرغم من علاقتهم الطويلة بالكنيسة البيزنطية ثم الكاثوليكية، فقد كان عصر الباروك الذي بدأ حوالي العام 1600 هو العصر الذهبي للكاستراتي، وانعكس فن الباروك، الذي تميز باحتفاليته البصرية في القصور المُذهبة والكنائس المهولة، على الموسيقى التي تطورت إلى أشكالٍ أكثر جموحًا من ناحية الزخرفة والعنفوان، ووصلت إلى درجةٍ عالية من التجديد في الآلات والخطاب الموسيقي عامةً، فصارت تُعبر عن طيفٍ واسع من المعاني ابتداءًا من الحساسية المفرطة والرثاء القاتم، ووصولًا إلى العنف وكل أشكال الموسيقى الاحتفالية والعسكرية والروحية. وترافق هذا التفجر في القدرة التعبيرية مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة في أوروبا، والاستقلال التدريجي للموسيقى عن الكنيسة، مما سمح لها بالانسلال من الديني إلى الدنيوي.

كانت الأوبرا هي الإنجاز الأعظم لفن الباروك؛ فقد جمعت الموسيقى والمسرح وكافة المؤثرات البصرية والقدرات التكنولوجية للعصر. فمسارح الأوبرا في القرن السابع عشر كانت مكانًا مجنونًا صُممت فيه أزياءٌ وديكوراتٌ مبهرة، واستُخدمت كل أنواع الآلات الممكنة لتقليد أصوات الرياح وتحريك الوحوش الطائرة واللعب بالضوء. وفي هذه الأجواء، ازدهر الكاستراتي وتحولوا إلى طبقة قوية من النجوم في بلاطات إيطاليا ومن ثم أوروبا الغربية كافة وصولًا إلى لندن، فأثروا على تاريخ عصرهم الفني والاجتماعي بمنافساتهم وعلاقاتهم بمؤلفين مثل هاندل G.F.Handel وبوربورا N.Porpora. ويعتبر فارينيلّي (Farinelli 1705-1782) المثال الأشهر على نجومية الكاستراتي والحياة الصاخبة التي عاشوها، وقد امتاز صوته بقدرته المزعومة على مد النوطة لدقيقة كاملة دون تنفس، وبراعته في الصعود إلى علو مخيف وتأدية كل أنواع المؤثرات المسرحية من منافسة الآلات النفخية وتقليد العصافير وتقنية الـ messa di voce الفائقة الصعوبة والتي تقتضي أن يتدرج الصوت من اللاشيء ويعود إليه دون أن يفقد لونه أو تختل كتلته.

قد يبدو صوت الكاستراتي الصبياني اليوم مُضحكًا أو غريبًا، ولكنه لم يتعارض أبدًا مع معايير الرجولة أو البطولة في ذاك العصر، على العكس تمامًا، فقد تمتع الكاستراتي بدائرة معجبات واسعة بفضل الذوق العام الذي كان يُفضل «الجمال الصبياني» والأصوات الحادة بصرف النظر عن جنس المؤدي، وكان ذلك جزءًا طبيعيًا من اللعب على الأدوار الجندرية الذي ميّز مسرح الباروك، حيث كان من الطبيعي حتى أن يمثل الكاستراتو دور امرأة والمرأة دور رجل، أو أن يمثل اثنان كاستراتي دور ملك وملكة، حيث كان كل هذا مجرد جزء من حب الالتباس في أوبرا الباروك التي خلقت عالمًا سحريًا قائمًا على المختلف وغير المألوف.

يعيدنا هذا إلى التاريخ العربي-الإسلامي والمجموعة الكبيرة من الفنانين الذين كتب عنهم الأصفهاني تحت اسم «المخنثين» وذكر أنهم «أئمة الغناء والحذّاق فيه». وقد اشتهروا -سواء كانوا مخصيين أم لا- بطبقات أصواتهم الحادة وتمتعوا بشعبية جنونية في بلاطات الأمويين والعباسيين، حيث كان الأداء الموسيقي الذي لعب على تماهي الأدوار الجندرية موجودٌ أيضًا في الذائقة الموسيقية العربية قبل أن تتبدل الأعراف الاجتماعية ويتم التعتيم عليه في العصور الحديثة.

مع الوقت، أصبحت عمليات الإخصاء تتم في الكثير من أنحاء إيطاليا بشكل سري، ذلك أن الكنيسة لم تسمح يومًا بها على الرغم من كونها المستفيد الأول من الكاستراتي، والذين ظلوا بدورهم مرتبطين بالكنيسة حتى بعد انتقالهم إلى المسرح. وفي مرحلة معينة، كان لا بد من مواجهة العواقب الأخلاقية لهذا الهوس الذي طال عشرات آلاف الأطفال، حيث صار الفقراء يخصون أبناءهم ويرسلونهم ليصبحوا نجومًا ويجلبوا لهم المال. لكن إجبار الأطفال على التضحية مقابل النجومية لم يكن إلا مشكلةً صغيرة مقارنةً بالحقيقة المريعة أن نسبة نجاح العملية كانت ضئيلة جدًا، أي قلةٌ منهم كانت تحصّل الصوت المطلوب، وقلة من بين تلك القلة كانت تصل للنجومية. ولم تنجح محاولات الكنيسة الخجولة في إيقاف هذه الظاهرة في القرن الثامن عشر، فبالرغم من تراجع شعبية موسيقى الباروك، ظل الجمهور يفضل وجود الكاستراتي في الأوبرات التي صارت تُكتب بأساليب جديدة أكثر أناقة وهدوءًا مثل أوبرات موتسارت.

أما الضربة الحقيقية لشعبية الكاستراتي كانت الحركة الرومانسية التي فجرت في القرن التاسع عشر مفهومًا جديدًا للموسيقى، فصار المؤلفون الرومانسيون يفضلون أصوات التينور والباص (التي نميزها اليوم كأصوات الرجال الطبيعية).

في عام 1824 قُدمت آخر أوبرا فيها دور مكتوب لكاستراتو، واستمر من بعدها بِضعة كاستراتي جزءًا من الفاتيكان حتى عام 1902، حين أصدر البابا ليو الثالث عشر أمرًا نهائيًا بعدم استقبال أي كاستراتي في جوقة كنيسة السيستين بالفاتيكان. وعام 1922، توفي A.Moreschi، الكاستراتو الأخير في روما، ليطوي فظاعة تلك الحقبة؛ بمعنى الفظاعة المزدوجة من الدموية والروعة الفنية.

خلال القرن العشرين، لم تعد إلا نسبة ضئيلة من أعمال الباروك المكتوبة للكاستراتي تعود بشكل خجول إلى الخشبات، حيث كانت تُؤدى من قبل النساء أو الأطفال، أما آلاف القطع المُبهرة التي كُتبت لأصواتٍ أسطورية متل صوت فارينيلّي، فقد بدا وكأن النسيان قد غمرها نهائيًا، إلا أن القصة لم تكن قد انتهت بعد.

حياة جديدة

شهدت التسعينيات بداية فورة عالمية ربما نعيش اليوم ذروتها لإعادة اكتشاف موسيقى الباروك؛ عشرات المؤلفين المغمورين اكتسبوا حياةً ثانية، حيث أخذ الغرب بإعادة تصنيع الآلات المنقرضة ونفض الغبار عن النوطات لإعادة بعثها إلى الحياة، إلا أنهم اصطدموا بمشكلة أدوار الغناء، التي كان أجملها مكتوبًا للكاستراتي.

الحل لهذه المشكلة جاء على يد مغنيي الكونترتينور (countertenor)، وهم شباب ذوو بنية جسدية وهرمونية ونبرة كلام طبيعية، ولكن ولأسباب مختلفة (وأحيانًا مجهولة)، ودون إخصاء، استطاعوا الغناء بطبقات حادة تشابه تلك التي استخدمها الكاستراتي، وإن كانت لا تطابقها تمامًا. وبينما ظلت أعداد الكونترتينور محصورةً في الكنائس خلال القرن الماضي، وجد أصحاب هذه الأصوات أنفسهم معنيين بالاهتمام والتقدير المُفاجئ في السنوات الأخيرة، حيث جاء استثمار أصواتهم الطبيعية كحلٍّ أمّثل لإحياء التراث الجمالي لتلك الحقبة وغسله من أزمته الأخلاقية في الوقت نفسه.

نُدرة أصوات الكونترتينور جعلت الكثيرين منهم نجومًا، حيث تلمع اليوم أسماء مثل P.Jaroussky و A.Scholl الذين تُوصف أصواتهم بالملائكية، إضافة إلى أمثالهم ممن قاموا بخلق مهنٍ عالمية قائمة على إعادة اكتشاف مقطوعات الكاستراتي المنسية. وبفضل جهودهم وجهود الباحثين الموسيقيين، صار سماعنا اليوم لموسيقى الباروك بآلات عصرها وتفاصيلها الأدائية الدقيقة، أمرًا ممكنًا.

أما في عالمنا العربي، فربما تُفسّر «التابوهات» الذكوريّة صعوبة تقبلنا لموسيقى الكاستراتي (وصوت الكونترتينور عامةً)، وبقائهما خارج الاعتبار. فقد حدث من قبل أن تقدّم أحد الشباب بصوت كونترتينور نادر إلى أحد أهم معاهد الموسيقى في المنطقة، ولم يُبدِ أحد أيّ اهتمام باستثمار صوته، بل وتم الاستهزاء به من قِبل بعض الموسيقيين على أن صوته «يشبه البنات».

ما يزال بعض الأشخاص يُصرّون على ربط مظاهر مثل الصوت الحاد لدى الشباب بصورٍ نمطيةٍ جنسية بهدف الإهانة، مما يضيف إلى صعوبة اكتشاف هذه الأصوات وتنميتها. وكالعادة، يجد أولئك في الغرب الاهتمام الكافي لبناء مسيرة مهنية ناجحة، كالمغربي راشد عبد السلام الذي درس الغناء في المعهد العالي في باريس، وله محاولات في إعادة خلق التراث الأندلسي السابق الذكر بطبقته الحادة الأصلية، أو اللبناني ماتيو الخضر الذي وجد بدوره الاهتمام الكافي في فرنسا لإطلاق مسيرته الفنية في الغناء الأوبرالي.

عندما يؤدي اليوم مغنٍ مثل جاروكسي Jaroussky قطعة مثل Alto Giove يشتعل المسرح بالتصفيق، وتنطلق الصحف والمدونات بالمديح، ليس فقط لأن الموسيقى مكتوبة بعناية لا تصدق، أو لأن أمامهم رجل بصوت ولد، بل لأن وراء كل هذا حكاية طويلة تفشي الكثير عن علاقة الإنسان المُتبدلة باستمرار مع جنسانيته، وعن شراسته الدموية في التضحية مقابل الجمال ومن ثم إيجاده الحساسية الكافية لتقدير هذا الجمال والتأثر به.

اليوم تُشكّل عودة موسيقى الباروك إلى الوعي العام شاهدًا بديعًا على علاقتنا المُتغيرة مع الماضي، والتي تسلك دروبًا لا يُمكن التنبؤ بها، وفي صلب هذه العودة تشكل موسيقى الكاستراتي انتصارًا لمرونة وجرأة الذوق المعاصر، والنطاق الأصعب الذي نتحدى ضمنه مفهومنا عن الجمال، حيث تتراخى معاييرنا عن الطبيعي والمعتاد في سبيل كل ما هو فوق الطبيعي وفوق المعتاد.

يظهر الكاستراتي فارينيللي في وسط اللوحة أعلاه، التي رسمها جاكوبو أميغوني، 1750-1752.

صول هي زاوية شهرية جديدة تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية