حبر تراجع البوكر

«مديح لنساء العائلة»: رواية التاريخ الاجتماعي للقدس

الأربعاء 09 آذار 2016

(ستنشر حبر تباعًا خلال الأسابيع المقبلة مراجعات للروايات الست التي وصلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، والتي سيعلن عن الفائز بها في ٢٦ نيسان المقبل).

منذ اليوم الذي أعلنت فيه الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة المرشحة للحصول على جائزة البوكر في نسخة هذا العام، عقدت العزم، وعلى غير العادة، على قراءة بعض هذه الروايات والكتابة عنها، علّني أتمكن من التنبؤ باسم الرواية التي ستفوز بالبوكر هذا العام. لكن ما حصل، هو أنني بدأت برواية «مديح لنساء العائلة»، لمحمود شقير، والتي رشحها لي بائع الكتب على أنها رواية البوكر الأكثر طلبًا وجمالًا بحسب من قاموا بشرائها من عنده. ومنذ ذلك اليوم، وحتى ساعات قبل كتابة هذا المقال وأنا أحاول إنهاء هذه الرواية، التي قادتني للتفكير في أن حضور مباراة لكرة القدم، أو مشاهدة الفيلم الفائز بالأوسكار، هي طريقة أفضل للاستفادة من وقتي، عوضًا عن تقليب صفحات هذه الرواية، ودعاء الله مرارًا، أن تمر الفقرات بشكل أسهل مما يحصل، أو أن تتحسن الرواية مع مضي الصفحات.

تجاوزًا، يمكن القول أن الرواية تحكي قصة جزء من عشيرة العبداللات التي انتقلت من البادية لتسكن قرية قريبة من القدس، أطلق عليها الكاتب اسم قرية راس النبع، أما الزمن الذي تحصل فيه أحداث الرواية، فهي فترة ممتدة، لكن الكاتب عني أكثر بالفترة التي تلي نكبة العام 1948. هذه العائلة التي ستنتشر، وستمتد أطرافها من راس النبع إلى البرازيل، مرورًا بالأردن ولبنان وغيرها من البلدان؛ بحثًا عن حياة أفضل تارة، وبفعل الاحتلال دومًا. قلت تجاوزًا، لأن الحقيقة هو أنه لا قصة واضحة في الرواية، ولا حكاية تسير بخط يمكن للقارئ أن يقول أنه قد وضع يده عليه، وإنما كلام وحكايات حول العائلة، وما يحصل لها، وما يفعله رجالها، وما تلبسه نسائها والظلم الذي يتعرضن له، تُروى الحكاية تارة على لسان الأم، وتارة على لسان الابن الأصغر محمّد، وتارة على لسان الشقيق فلحان، لكن وعلى خلاف ما يحصل في الروايات التي يتعدد فيها الرواة كان الصوت في هذه «الرواية» موحّدًا، لدرجة يصبح معها التركيز أمرًا عسيرًا، وستحتاج خلال القراءة إلى تقليب الصفحات والعودة إلى ما سبق وإلى القراءة أكثر من مرّة لتعرف من هي الشخصية التي تتحدث الآن.

يحسب لرواية مديح لنساء العائلة أنها قامت بتوثيق حقبة هامة من تاريخ المنطقة عمومًا، وبالتحديد الضفة الغربية وقرى القدس، وعلاقتها بالأردن

يختلف فن الرواية عن باقي الفنون الأدبية الأخرى في كونه قادرًا دومًا على أن يكون وثيقة للتأريخ، وخصوصًا التاريخ الاجتماعي، وهذه الفكرة هي التي دفعت الكاتب السوري حنّا مينة للقول سابقًا: «أن الرواية باتت في القرن العشرين ديوان العرب» بعد أن كان الشعر ديوان العرب لقرون عديدة، حيث عرفنا الكثير عن حياة العرب قبل الإسلام، بل وعن حياتهم بعده كذلك، من خلال القصائد التي وصلتنا، فأرّخت للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من دون أن يؤثر هذا التأريخ على جودة وجمال القصيدة وجودتها الفنّية. ولذا، يحسب لرواية مديح لنساء العائلة أنها قامت بتوثيق حقبة هامة من تاريخ المنطقة عمومًا، وبالتحديد الضفة الغربية وقرى القدس، وعلاقتها بالأردن، وهذه الحقبة هي الفترة المتصلة منذ ما قبل النكبة بقليل، إلى ما بعد نكبة حزيران 1967.

قامت رواية مديح لنساء العائلة، بالتأريخ أساسًا للحياة الاجتماعية لسكان القرى، عاداتهم وتقاليدهم، طريقتهم في الملبس، شكل الحياة الذي وفقه يعيشون، والتغيّرات التي حصلت لهم بفعل الانتقال من البادية إلى القرية، ومن ثم إلى الحضر لاحقًا، العقلية التي واصلت حضورها الطاغي رغم كل التحوّلات، الأسباب التي دفعت إلى هذه التغيّرات، سواءً أرتبطت هذه التغيرات بوقوع الاحتلال، أو باكتساب الثروة أو لغيرها من الأسباب. وهذا العرض للواقع الاجتماعي في فلسطين في هذه المرحلة يجعل من النص رواية مفيدة للغريب عن بلاد الشام وعادات أهله، وللبعيد عن واقع الأحداث الكبرى التي حصلت في هذه المنطقة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتأثيرات «الصغيرة» التي خلّفتها هذه الأحداث، سواء أكان هذا الحدث هزيمتين عربيتين أمام العدو الإسرائيلي، أو طفرة نفطية تحصل في الخليج فتجعل منه قبلة للباحثين عن حياة أقل سوءًا.

لكن ما يعاب على الرواية هو أن هذا التأريخ للحياة الاجتماعية أساسًا، وللوضع السياسي والاقتصادي ثانيًا، لم تصاحبه جودة فنّية عالية، وهو العيب الذي جعل قراءة الرواية عملية تتطلب مجهودًا أكبر مما يجب.

من الممكن تلخيص العيوب الفنّية في الرواية في كون الشخصيات غير واضحة الملامح، وأعني هنا من ناحية الصوت الروائي، فرغم الاختلافات الثقافية والجنسية بين العناصر التي أخذت على عاتقها قص الحكاية إلّا أن الأصوات في كثير من الأحيان كانت متشابهة في طريقة كلامها، وفي المصطلحات التي تستعملها، وفي نظرتها إلى العالم من حولها.

كما أن الرواية تفتقر إلى قصة متماسكة يمكن تلمّس خطها بشكل واضح، وهو الأمر الذي أفقد الرواية فرصتها حتى في أن تكون في منزلة حكايات الجدّات، التي تجد فيها على الأقل حبكة، وربما تستطيع الجدّة، إن كانت ماهرة في الحكي، في أن تخلق تسلسل أحداث يرتفع تارة وينخفض تارة فيجذب المستمع ويأسره، وهو أمر عجزت عنه رواية محمود شقير. صحيح أن الرواية، بشكل عام،  تطوّرت عبر الزمن، وباتت تختلف جذريًا عن الحكاية والقصة القصيرة، وعن أساليب الحكي الأخرى، لكنني أظن دومًا، أن هنالك بعض العناصر التي لا يصح غيابها عن الرواية مهما يكن الأسلوب والمدرسة التي ينتمي إليها المؤلف، ناهيك عن أن هذه الرواية رواية كلاسيكيّة تمامًا، فلا تجريب في طريقة كتابتها، ولا فيها خيال جامح، وكذلك لا عبث داخلها بالزمن، حتى نقول أنها نوع مختلف من الروايات التي تستوجب على القارئ جهدًا إضافيًا تستحقه.

هذه العيوب، وغيرها، تدفع نحو التفكير طويلًا في الأسباب التي لأجلها وصلت هذه الرواية إلى القائمة القصيرة، وتضع مزيدًا من الأسئلة حول جائزة البوكر وحول الأسس التي يتم بناءً عليها ترشيح الأعمال، والمعايير التي يتم وفقًا لها اختيار ما يعتبره البعض الرواية الأفضل عربيًا في هذا العام.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية