حبر تراجع البوكر

حارس الموتى: لا بطل سوى الصدفة

الإثنين 25 نيسان 2016
جورج يرق حارس الموتى

(تنشر حبر تباعًا مراجعات للروايات الست التي وصلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، والتي سيعلن عن الفائز بها في ٢٦ نيسان).

في زمن الحروب الأهليّة العربية التي تعمل بجد عز نظيره على إحراق الأخضر واليابس، يعود بنا الروائي اللبناني جورج يرق، في روايته المرشحة لجائزة البوكر«حارس الموتى»، إلى لبنان في النصف الثاني من السبعينيات الذي شهد اشتعال الحرب الأهلية التي مزّقت لبنان. رغم مرور ربع قرن على انتهاء الحرب، رسميًا على الأقل، إلّا أن البلد لا زال يعاني من تبعاتها، بل قد يمكن القول، أن الحرب الأهلية اللبنانية هي نسخة أولى من الحروب الأهلية العربية الدائرة حاليًا، وإن كانت الأخيرة أوسع نطاقًا، وأكثر بؤسًا، وأشمل دمارًا.

على طريقة المذكرات الشخصية، يروي علينا البطل «عابر الليطاني» حكايته. لكن في الحرب الأهلية لا أبطال، ولا ضحايا، والدليل على ذلك أن «عابر» يتورط منذ الصحفات الأولى للرواية، وعن غير قصد أو خطأ منه، في جريمة اختطاف شخص ما من القرية التي يسكنها وعائلته، وهي القرية التي تبدو مع بداية الحرب الأهلية نسخة مصغّرة عن لبنان، تجاذبات وأحزاب وميليشيات، وتصعيد، بالخطف حينًا، وبالقتل أحيانًا.

يتورط عابر في الحادثة فقط لأنه كان «عابرًا»، لتبدأ إثر هذه الحادثة عملية هروب طويلة، لكن ما يبدو أنه محاولة من عابر للنجاة بنفسه، تتحول إلى مثال يمكن تعميمه عما يحصل «للأبرياء» في الحرب الأهلية، ومع كلّ مرّة يحاول فيها عابر الليطاني أن يبتعد أكثر عن الحرب وويلاتها وتحزّباتها، يجد نفسها غارقًا في مستنقعها أكثر، فأكثر، ودومًا، عبر تدخل القدر أو الصدفة المحضة لتوريطه، فتارة يكون شاهدًا على جريمة اغتصاب، وتارة مشاركًا في عملية سطو، وأخرى يكون فيها قنّاصًا، يزهق الأرواح وفقًا لمزاجه الشخصي، إلى أن يصل في النهاية إلى أن يكون حارسًا للموتى، أو سارقًا لهم. والفتى المحب لقراءة روايات أغاثا كريستي ولصيد العصافير في قريته الوادعة، يتحوّل قنّاصًا في بيروت، ومنظّفًا للجثث في إحدى مستشفياتها.

تستعرض الرواية، سلوكيّات الحرب الأهلية، والحضيض الذي يمكن أن تقود المنخرطين فيها إليه، وعندما نتحدث عن المنخرطين في الحرب الأهلية، نتحدث عن حاملي السلاح، والمتسلحين بالصمت كذلك. فالحرب تطبع البشر بسماتها، فنرى الفساد، والتحزّب المتطرف، والتطييف، والقتل على الهوية، والسرقة، والغش، والاستقواء بالحزب أو الطائفة أو السلاح، والرغبة في العيش يومًا فيوم، على اعتبار أنه وخلال الحرب الأهلية يصبح الغد حلمًا، أو وهمًا، إمعان التفكير فيه غير مجد.

ما تقوله لنا رواية حارس الموتى، هو أنه ومهما كانت الظروف، فإن الإنسان قادر على التعوّد.

يمكن القول أن الرواية تمتاز بلغتها السهلة، وعرضها المشوّق أحيانًا، الممل في بعض الأوقات، لكنها في المجمل رواية أدّت الغرض الذي أظن أنها كتبت لأجله، وهو توضيح الهشاشة التي نتمتع بها كبشر، خاصة في ظرف غاية في الاستثنائية، كالحرب الأهلية، وكذلك ضعفنا، وقلّة حيلتنا إزاء أمر كالصدفة، والتي تلعب دورًا حاسمًا في الرواية، حتى يمكن القول تجاوزًا أنها البطل في الرواية لا عابر.

هذه الفكرة يمكن لها أن تقود إلى وقف النظر باستعلاء للمشاركين في الحرب الأهلية، إذ يصعب على أحدنا بعد قراءة هذه الرواية، وغيرها من روايات الحرب الأهلية، أن يقول لو كنت في زمن الحرب الأهلية لترفّعت عن المشاركة فيها، فكما أن الحرب لم تقع بمزاج الشعب، فإن المشاركة فيها لم تكن يومًا بمزاجهم، وهذه ليست محاولة لتبرئة المشاركين، ولكن لاستحضار مقولة نجيب محفوظ التاريخية في رواية الكرنك: «كلنا مجرمون وكلنا ضحايا، ومن لم يفهم ذلك فلن يفهم شيئًا على الإطلاق».

ما تقوله لنا رواية حارس الموتى، هو أنه ومهما كانت الظروف، فإن الإنسان قادر على التعوّد، فالفتى الذي كان يغيّر طريقه ويفر من الشارع لحظة رؤيته لجنازة، صار لا يجد في الدنيا مكانًا أرحب من ثلاجة الموتى، يحدث جثثها، ويحس بأرواحها الهائمة، ويشتهيها.

يقول الكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان في روايته أعدائي: «نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا».

لطالما، كانت الحرب الأهلية اللبنانية، مادة دسمة يستخدمها الروائيون في أعمالهم، مستكشفين التأثيرات التي تصاحبها، سواء على النفس البشرية، أو على الجماعة السياسيّة المتخيلة المدعوّة شعبًا، وتبعات هذه الحروب سياسيّا واجتماعيًّا واقتصاديًا، لكن المختلف في رواية جورج يرق هو أسلوب الحكي الجميل، الساخر بعض الشيء، وهو ما يمكن القارئ من التهام الرواية في جلستين طويلتين، وكذلك أن الحكاية تقص على لسان شخصية أقل من عادية، فالبطل ليس بطلًا حقًا، وليس شخصًا ذا انتماءات تبرر له المشاركة والقتل، ولا هو مدافع عن قضية كبرى، هو فقط، شخص يحاول النجاة بنفسه، مهما كلّف الأمر.

يبقى السؤال الأخير، خاصة وبعد وصول هذه الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي هذا العام، هل كانت هذه الرواية تستحق، والجواب، من وجهة نظر شخصية، أنه وعند المقارنة على الروايات الأخرى المرشحة للجائزة هذا العام، على الأقل تلك التي وصلت إلى القائمة القصيرة، يمكن اعتبار هذه الرواية مناسبة جدًا، ومؤهلة بقوة لنيل الجائزة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية