جورج طرابيشي: تحيّة وداع إلى معلّم  

الأحد 20 آذار 2016

بقلم ثائر ديب*

630تعرّفت إلى جورج طرابيشي شخصيًا في دمشق أواخر عام 2003، في بيت الشاعر والمثقف بندر عبد الحميد المفتوح دومًا. كان قد جاء إلى دمشق كي يبرم عقودًا مع مترجمين وكتّاب وناشرين لمصلحة «مؤسسة التحديث الفكري العربي» و«رابطة العقلانيين العرب». وكنتُ من بين أولئك المترجمين بعد أن أشار عليه بي أكثر من شخص، في مقدمتهم د. فيصل درّاج. وفي بيت بندر اتفقت وإيّاه على ترجمة كتاب «23 عامًا: دراسة في السيرة النبوية المحمدية» للكاتب الإيراني علي الدشتي الذي قضى في السجن أيام الخميني بسبب كتابه هذا. وفي هذا البيت ذاته سألتقيه مرتين أخريين طويلتين، قبل أن أراه آخر مرّة في بيروت أوائل أيار من عام 2004.

من بين ما يعنيه الوجود في بيت بندر عبد الحميد، فضلًا عن تيسير العمل والمشروعات الثقافية والتعارف والصداقة، كانت النقاشات الفكرية الثرّية. فما بالك إذا ما توفّر لهذه النقاشات وجود جورج طرابيشي المفكّر المتبحّر المتعمق، موسوعيّ التجارب والمعارف الذي يليق به لقب المعلّم على نحو ما أُطلق على فلاسفة ومفكرين كبار؟ كنتُ قد قرأتُ، بحكم اهتمامي وعملي، أغلب ما خطّه قلم طرابيشي تأليفًا وترجمةً، كتبًا ومقالات ومواد صحفية، ما زاد طمعي في اعتصار حضوره هناك. لكن المفاجأة أنني وجدتُ نفسي إزاء شخص يسأل أكثر مما يجيب، متواضع في أسئلته كما في إجاباته، جمّ التهذيب من دون تمثيل أو تظاهر. يهمّه رأيك في ترجماته كما في كتبه، ويفرح خَجِلًا كالطفل إذا ما امتدحت أوجهًا فيها عن معرفة واطلاع.

كدتُ لا أصدّق أنَّ مترجم موسوعة علم الجمال الهيغلي كاملةً، وتاريخ الفلسفة لإميل برهييه برمّته، ومعدّ معجم الفلاسفة، ومترجم عشرات كتب فرويد، وأعمالٍ لسارتر ولوكاش وماركوزه وغيرهم كثر، فضلًا عن عشرات المؤلّفات في الماركسية والفكر القومي والنقد الأدبي والفكر العربي ونقد العقل العربي ونقد نقده، كدت لا أصدّق أنّ هذا الرجل حريص كلّ هذا الحرص على الإصغاء بكلّ اهتمام، وأنَّ عينيه تلتمعان بكل هذا الفرح إذا ما سُرَّ لجديدٍ يُقَال، في حين لا يبدي من جهته كبير اهتمام أو جهد لأن يمسك بناصية الكلام ويشدّها صوبه.

أولّ ما لفت انتباهي لدى طرابيشي هو ملابسه البسيطة ونظافتها البالغة، حتى لتحسّ أنّه خرج للتوّ من دعاية تلفزيونية لأحد مساحيق الغسيل وراح يشيع حوله نظافةً وإحساسًا بها لا سبيل إلى ردّهما.

ثاني ما لفت انتباهي لديه خليطٌ من الصوفية والرواقية، ربما، تولّدان في شخصيته كلّ هذا الهدوء، وتفضيل الإصغاء، والصوت الخفيض عند الكلام، وحبًّا لبني البشر وحنوًّا تجاههم كائنًا من كانوا، مع ميل إلى غفران أخطائهم وتبريرها، والرغبة في مدّ يد العون لهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

وثالث ما لفت انتباهي هو الطريقة التي يتحدث بها عن زوجته (الكاتبة والمترجمة المهمة هنرييت عبودي التي جاءت معه في المرات التالية) ومقدار اهتمامه بشؤونها الشخصية والكتابية وبكلّ ما يسعدها. وحين لفتُّ انتباهه إلى أنّه يتكلم عليها كما يتكلّم العاشق على الرغم من طول السنين معًا، أبدى استغرابًا وأشار إلى أنّه يجد نفسه مقصّرًا على هذا الصعيد، وعبّر عن حسد وإعجاب شديد بعلاقة الحبّ التي يعجز عنها المراهقون بين د. نصر حامد أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس، الأمر الذي سأتأكد منه عمّا قليل حين سأراهما في بيروت رفقة طرابيشي وثلّة من المثقفين العرب.

وجدتُ نفسي إزاء شخص يسأل أكثر مما يجيب، متواضع في أسئلته كما في إجاباته، جمّ التهذيب من دون تمثيل أو تظاهر

مع د. نصر ود. ابتهال اللذين طلقهما طيور الظلام في أواخر القرن العشرين -إثر اتهامه بالارتداد والكفر وفقًا لقانون الحسبة، لمجرد تجرّؤه على التأويلات الإسلامية السائدة ودعوته إلى التعامل مع النصوص تبعًا لكونها نصوصًا- نصل إلى ما كان طرابيشي منكبًّا عليه في أواخر حياته من شغل لا على نقد هذا العقل التكفيري المستشري فحسب، بل على نقد عقول أخرى فاقدة للعقل مثله، تصنيفية وشعبوية، لدى مفكّرين وكتّاب واتجاهات فكرية وسياسية ما لبثوا، مع انطلاق الانتفاضات العربية، أن أقاموا أحلافًا خائبة شتّى مع من كفّر نصر أبو زيد، لا بل مع تكفيريين أشنع بكثير، ما أودى -إلى جانب قمع الأنظمة الوحشي- بأغلب براعم انتفاضات الربيع العربي الأولى، وحوّل أغلبها إلى حفلات لعنٍ للأرواح لا ينظّمها توجّه اجتماعي واقتصادي واضح.

في بيروت، بين مساء 29 نيسان وصباح 3 أيار 2004، سأبقى قريبًا من طرابيشي الذي سلّمني مكافأة مجزية لقاء ترجمتي كتاب الدشتي، واكتشف من قراءتها أنني عدتُ، في شغلها، إلى عدد من كتب السيرة، قديمها وحديثها، وإلى عدد من كتب التفسير من دون أن يكون الدشتي قد أورد منها مقبوسات محددة، وسألني إن كنت اشتريت تلك المراجع كي يطلب ثمنها من المؤسسة.

كانت تلك الأيام أيام انعقاد مؤتمر «الحداثة والحداثة العربية» الذي عقدته «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» بوصفه مؤتمر إشهارها. واجتمع هناك، جورج طرابيشي، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وفيصل دراج، وكثر غيرهم، ليتفكّروا في فشل معركة الحداثة في المجتمعات العربية، وليطرحوا إشكالية النهضة على ضوء الراهنية الجديدة التي اكتسبتها في مطلع القرن الحادي والعشرين الذي تسارع فيه مأزق الانسداد العربي وتعمق على نحو غير مسبوق.

لعلّ تلك الأيام كانت أيضًا -حتى بالنسبة إليّ أنا ابن التجارب الحزبية والأيديولوجية والفكرية، الذي ملّ الكلام على النهضة والانسداد وينتظر جدّةً في التفكير والخطاب- من أواخر الإيماءات على إدراك كبار المشتغلين بالفكر العقلاني الحداثيّ ضرورة التجمّع والتعاون، الأمر الذي يكاد يزول اليوم من عالم العرب. ولعلّ تلك الأيام كانت من أواخر الأيام السابقة على احتلال الواجهة الثقافية والفكرية من قبل كتبة المقالات الصحفية المبتسرة ومغردي تويتر ومدبّجي جمل الفيسبوك السريعة الذين لا يترددون في تخوين كلّ من يخالفهم.

في تلك الأيام، أصغى طرابيشي ولم يشارك. كان مكتفيًا بالسهر على راحة الجميع وبسير الأمور على ما يُرام. كان خادم الجميع كما يليق بكبير قومٍ. كان مكتفيًا بالمحبة والنظافة يشيعهما كيف تحرّك وأنّى اتجه.

*ثائر ذيب مترجم وكاتب من سوريا

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية