من الوجدان إلى العقل: الإصلاح والتغيير

الأربعاء 20 نيسان 2011

بقلم: د. لبيب قمحاوي

أمام السفارة المصرية في عمان/ ١١ شباط ٢٠١١ - تصوير علي سعدي

الشعب لا يرغب ولا يريد أن تتم ثورة الإصلاح والتغيير في الأردن من خلال مخاضٍ دامٍ على الطريقة الليبية أو اليمنية. فما دام سقف مطالب الإصلاح في الأردن ما زال ضمن إطار الشرعية الدستورية التي تنادي ببقاء نظام الحكم ولكن ضمن معادلة دستورية جديدة، فإنّ عملية الشد العكسي التي يقوم بها النظام و مؤسساته تضحى غير لازمة وغير ضرورية بل و مُسْتَفِزّة كونها تهدف إلى حرمان الشعب من الوصول إلى أهدافه، و هي أهداف مشروعة و هادئة. إنّ استمرار النظام في عملية الشد العكسي قد يؤدي إلى تفاقم الأمور بشكل يخرجها عن إطار السيطرة ، كما تشهد مناطق أخرى مثل اليمن، و التي دفعت قوى الشد العكسي المتبادل فيها إلى تصعيد شعارات الثورة و حصرها في كلمة واحدة غير قابلة للتفاوض و هي ” إرْحَل “.

لا يوجد ما هو أسهل من خلق الأعذار و المبررات لبقاء الوضع على ما هو عليه من فساد و عفن سياسي و مالي، واستهتار واضح بالمواطن و آماله وأحلامه و مستقبله ومستقبل الأجيال الجديدة. الحرية تعادل الروح بل و الحياة نفسها. ولحظة الحقيقة قادمة، و هي اللحظة التي ينتظرها الكثيرون. إنها اللحظة الفاصلة بين قبول واقع جديد أو رفضه. وكذا بالنسبة للحكام، هي أيضاً لحظة الحقيقة، إذا اغتنمها الحاكم أصبح حكيماً، وإذا لم يغتنمها يكون قد سَطَّرَ نهايته بيده.

يستطيع أي حاكم مستبد أن يُسَخِّر موارد الدولة كما يريد من أجل تعزيز حكمه بأي ثمن. وبهذا يحاول الحاكم أن يخلق لنفسه عالمَاً يعيش فيه بوهم أنه محبوب وأنّ شعبه يريده كما هو، بِعَجَرِه و بَجَرِه ، حتى لو كان حاكماً ظالماً فاسداً أنانياً يعتبر أنه هو البداية و هو النهاية. و لكن هل يستطيع الوهم أن يهزم الحقيقة؟ و لمصلحة من أن ينتصر الوهم على الحقيقة؟

كل حاكم مطلق يرغب في أن يحكم إلى الأبد. و قد حَذرَنا التاريخ مراراً و تكراراً بأنّ شراء وهم القبول الشعبي من خلال دعم وتأييد كاذبين لن يؤدي، في النهاية، إلا إلى الكارثة. واستبدال حقيقة ثورة التغيير بوهم التأييد الكاذب والفعل المضاد لن يجعل الحقيقة تختفي حتى لو تم استعمال الحديد و النار.

الأردن هو احد دول المنطقة التي تصر على عدم استيعاب الدروس مما يجري حولها. و الأردن يحاول شراء الوقت و الالتفاف على مطالب الجماهير من خلال المماطلة ومحاولة تسليم قيادة التغيير، مع أنه تغيير شكلي، لعناصر كانت قائدة ومتنفذة في حقبة الفساد المالي والاستبداد السياسي . و ما حكومة الأردن الحالية ولجنة الحوار الوطني إلا أمثلة على ذلك. إنّ فاقد الشيء لا يعطيه . وكثير ممن تمت تسميتهم لقيادة مرحلة التغيير إنما هم في الواقع جزء من المشكلة ومن المستحيل أن يكونوا بالتالي جزءاً من الحل. إنّ مثل هذا الموقف يعكس إما جهلاً مطبقاً بديناميكية التغيير وعوامله ، أو استهتاراً مقصوداً بالناس وعقولهم.

إنّ مصر و ثورة مصر، كما تونس وثورة تونس، قد قدمتا الدليل الحي والملموس بأنّ قادة حقبة الفساد المالي والسياسي لا يمكن أنْ يكونوا قادرين على قيادة حقبة التغيير و الإصلاح، بل لا يجب السماح لهم بذلك. وعلى الأردن أنْ يتعظ من غيره عوضاَ عن الإصرار على تعلم دروسه على حسابه وبثمن قد يكون باهظاً. وعلى النظام أنْ يتعلم خطأ وظلم ممارساته المعتادة والتي استندت إلى مبدأ من لم يكن معنا فهو ضدنا. و بالتالي، من لم يكن مع النظام فهو غير موجود حتى و لو كان مواطناً حياً يرزق. فالمُوَاطَنَةُ بالنسبة للنظام لا تكفي والأساس هو الولاء الأعمى. مَنْ ذَاكَ الذي يستبدل المواطنة الحَقَه بالولاء الأعمى؟ أمرٌ عجيبٌ و يدعو إلى الغضب. فالولاءُ هو للوطن . و كل من أحب الوطن و حَمَاهُ و خَدَمَهُ هو المواطن الحقيقي الذي يحق له التمتع بكافة الحقوق . اللهُ أكبرُ على كلِّ ظالمٍ . الولاءُ للوطن حتمي و لا خيار فيه ، و لكن الولاء للحاكم ونظام الحكم اختياري وهو جزء من العملية الديمقراطية. لكل مواطن الحق في المعارضة دون أن يؤدي ذلك إلى التشكيك في وطنيته أو مواطنته. لا ولاء أعمى لأي نظام بل تأييد أو معارضة طبقاً لسياسات هذا النظام أو ذَاكَ. أما أنْ ترتبط حقوقُ المواطنِ بولائه لنظام ما، و ليس للوطن ، فهذا من سماتِ الأنظمةِ الديكتاتورية التي نحاربُ جميعاً الآن من أجل إسقاطها.

وهنا تكمن الفلسفة الحقيقية في المطالبة بالتعديلات الدستورية في الأردن وذلك حتى يكون الملك فوق السياسة والمساءلة والمحاسبة و حتى تكون الحكومة هي المعرضة لكل ذلك، و حتى يكون موضوع الولاء بالتالي محسوماً لصالح الوطن وتكون المعارضة حقاً دستورياً ولأي مواطن أن يمارس حقه الدستوري في أن يُسقِط هذه السياسة أو تلك من خلال العمل على إسقاط هذه الحكومة أو تلك.

إنّ ممارسة الحكم والمساءلة والمحاسبة أمور لا يمكن الفصل بينها. و الكويت مثال على ذلك. فالأزمة النيابية المستفحلة في الكويت أساسها أنّ النظام الكويتي لا يريد لولي العهد، وهو رئيس مجلس الوزراء، أن يُسْتَجوَب من قبل مجلس الأمة، و المجلس يُصِّرُ على حقه الدستوري في ذلك. و كان الخيار إما أنْ يُشكّل الحكومة شخص من خارج العائلة المالكة أو أنْ يخضع رئيس الحكومة ولي العهد للاستجواب و هذا ما كان. لا ممارسة للحكم دون مساءلة. مبدأٌ بسيط ولكنه حاسم و عادل وديمقراطي.

إنّ استمرار تعنت أي نظام حاكم، ورفضه التعامل مع مطالب الإصلاح بصدق و جديّة، سيؤدي بالنتيجة إلى رفع سقف تلك المطالب بشكل قد يدفع الأمور باتجاه الحسم القاصم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الغضب و الإحباط الجماهيري من سياسات التجاهل قد يؤدي إلى تقوية يد بعض التنظيمات المتطرفة و يشجعها على محاولة ركوب الموجة و قيادة التحرك الجماهيري في اتجاهات أخرى لا يريدها أحد. إنّ مطالب الشعب ليست محصورة بالإصلاح السياسي والاقتصادي كما يزعم الحكم في الأردن، و لكنها أشمل من ذلك وتطالب بالإصلاح الدستوري ومكافحة الفساد والفاسدين، ووضع حد لاستفحال نفوذ وتَغوُّل الأجهزة الأمنية وتدخلها في حياة المواطنين. فالأنظمة الجائرة غالباً ما تلجأ إلى استعمال سلاح البطش والقهر كوسيلة لتطويع شعوبها. لكن سواء طال الزمان أم قصر، فإنّ هذا الوضع يبقى مؤقتاً ويعتمد على قدرة هذا النظام أو ذاك على الاستمرار في قهر الشعب، و على مدى استعداد الشعب لقبول مثل ذلك الظلم. و من أجل تحقيق ذلك، حرصت تلك الأنظمة على تطوير أجهزتها الأمنية وإمدادها بعناصر القوة حتى أصبحت الدولة تجسيداً لذلك الواقع وبرز مفهوم الدولة الأمنية. لقد تصدت الثورة المصرية للمؤسسة الأمنية بشجاعة وذكاء وأعطت الأولوية للقضاء على تلك المؤسسة الشرسة والشريرة والتي كانت الذراع الضاربة لنظام فاسد استطاع تدمير أعظم و أعرق دولة عربية وتحويلها من قائدة للعالم العربي وأفريقيا إلى رجل المنطقة المريض و المستباح. و كباقي الدول العربية ، فإنّ الجهاز الأمني في الأردن قد اتخذ مساراً مشابهاً لباقي الأجهزة الأمنية العربية. لقد آن الأوان لأنْ يعود جهاز المخابرات العامة في الأردن إلى ممارسة دوره الأساسي والطبيعي في حماية أمن الوطن عوضاً عن إدارة شؤون الوطن و التحكم في حياة المواطن كما هو عليه الحال الآن.

الشعب يبقى والنظام الجائر يزول. أما الأنظمة التي تبقى فهي التي تعبّر عن شعوبها و تلتصق بها. فشرعية أي نظام لا يتم التعبير عنها من خلال قدرة النظام على البقاء و الاستمرار، و لكن من خلال القبول الشعبي الحر و قدرة النظام على التعبير عن الأماني الوطنية و الإرادة الحرة للشعب. والأردن ليس بمعزل عن كل ذلك. فثورة الإصلاح قائمة و معادلة الإصلاح ما زالت بسيطة ، فإمّا أنْ يكسب الشعب و يكسب النظام ، أو أنْ يخسر الشعب و يخسر النظام. و حتى الآن لا أحد يريد أنْ يرى تغييراً على هذه المعادلة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية