الهويّة الأردنيّة، المساءلة وإعادة التّعريف

الأحد 17 نيسان 2011

بقلم د.ساندي سالم أبوسيف

لا ريب أنّ الأحداث الأخيرة التي شهدها الأردنّ قد أنضجت معها ملامح أولى لإعادة قراءة وتعريف الهويّة الأردنيّة التي كان ينتابها الكثير من الضّبابيّة وعدم الوضوح، ويمكن القول إنّ هذا يعدّ – برأيي – من أكثر الإيجابيّات التي أفرزتها الحراكات سواء أكانت تلك التي خرجت إلى الشّارع أم الانتفاضة الافتراضيّة التي وقعت من خلف الشّاشات على صفحات المدوّنات ومواقع التّواصل الاجتماعيّ، لأنّ إعادة مساءلة الهويّة الأردنيّة وتفكيكها بغية التّوافق على وحدة هويّة وطنيّة جامعة تعدّ مهاداً ضرورياً لأي مجتمع مدنيّ أو لأي مطالبات إصلاحيّة، وبدونها لا يعدو أن يكون الأمر تنظيرا ممتعا لا أقل ولا أكثر بدون خطوات جديّة لحل أراه جذريّاً لمجتمع لا يزال يتكهّن بهويّته.

إنْ كان لكل هويّة تعريفها وكينونتها الخاصّة بها والتي تميّزها عن أي هويّة أخرى إلاّ أنّ الحال في الهويّة الأردنيّة يختلف فثمة عوامل تجعل منها متفرّدة وشائكةّ على نحو لافت، فلقد ظلّت الهويّة الأردنيّة وحتى آونة قريبة جدّاً وعلى مسار تاريخ طويل يمكن أن يردّ إلى السّبعينات وتحديداً إلى الفترة التّاريخيّة التي شكّلت انعطافاً حادّاً في تاريخ الأردنّ وهي “أيلول الأسود” ظلّت دائماً محلّ مساءلة وتردّد وتشكيك، وهي بالتّشديد عليها أي “الأردنيّة” فإنّها تفترض مقابلاً آخر بالضّرورة؛ أي لا يمكن وعيها أو تعريفها في ذهن الأردنيين إلا بوجود هويّة أخرى مقابلة لها، وهذا على النّقيض من الهويّات العربيّة الأخرى التي تشكّل كياناً قائماً بذاته؛ فالهويّة المصريّة مثلاً هي هويّة وطنيّة جامعة ذات كيان مستقلّ لا تقابل آخر بالضّرورة. هذا الفهم للهويّة الأردنيّة الذي لعبت التّطورات التي مرّ بها الأردنّ منذ تأسيسه مروراً بإحتلال الضّفة الغربيّة، وأحداث السّبعينات وما تلاها من فكّ الارتباط دوراً أساسيّاً في تشكيله وفق هذا النّحو المتفرّد، والذي أفرز وعيّاً خاصّاً بالذّات الأردنيّة وأسهم في إحداث انشطار لا يخفى في واقع الهويّة الأردنيّة التي كان من اللازم عليها أن تشير إلى شقيّن يبدوان في ظروف ما غير منسجمين مطلقاً، أو يشرع كلّ منهما إلى إضافة ما يمكن فهمه على أنّه ردّ لازم إلى (الأصل) فالأردنيّ هو إمّا أن يعرّف: أردنيّ من أصل أردنيّ أو أردنيّ من أصل فلسطينيّ، ويلاحظ أنّ إضافة (الأصول) إلى تعريف الهويّة بإضافة جنسيّة أخرى حالة خاصّة في العالم العربيّ؛ فمثلاً قد تقع ولا سيما بعد الاحتلال الأمريكيّ للعراق والذي أعاد ترتيب الهويّات في الشّرق الأوسط على نحو مختلف قد تسمع بـ عراقي شيعيّ أو عراقي سنيّ أو عراقيّ كرديّ ، أو مثلاً لبناني مسيحي مارونيّ أو سوري كرديّ؛ بمعنى تعريف المفارقة بالهويّة على أساس الدّين أو العرق بينما في الحالة الأردنيّة فإنّ ثمة جنسيّتان تشتركان في هويّة واحدة.

على امتداد تاريخ طويل ظلّ هذا التّشارك أقرب إلى الانسجام والتّوادّ إلاّ أنّه وفي حالات عديدة كان يضمر تفاعلات قلقة ومضطربة أسهمت عوامل خارجيّة وداخليّة عدّة في تشكيله وفق هذا النّحو وعلى رأسها الإحتلال الإسرائيليّ؛ فبرأيي لا يمكن الحديث عن أي توافق تامّ يمكن أن يحدث بين ما يمكن تسميّته بـ شقيّ الهويّة الأردنيّة مادامت إسرائيل تحتلّ جزءاً من أراضٍ هي في معظمها لأردنيين في نهاية المطاف، وهنا أتكلم تحديداً عن أراضي 1967، وأعتقد أنّ هذا يشكّل العامل الأبرز في الحديث الذي غالباً ما كان متوارياً وأسهمت السّنوات الخمس الأخيرة بالإضافة إلى الأحداث الأخيرة في دفعه إلى السّطح والذّي يتلخّص في نظريات إسرائيل في “الوطن البديل” وما أثارته من مسائل تتعلق بهذا كحقّ العودة، وحاملي الكرت الأصفر والكرت الأخضر، ومن سيعود ومن سيبقى؟ ومن له الحقّ في الأردنّ ممن ليس له هذا الحقّ ؟ ….

بالإضافة إلى ما سبق فإنّ ثمة عوامل داخليّة أسهمت هي الأخرى في صياغة الهويّة الأردنيّة على نحو مفارق وسأتناول تحديداً الخطاب الرّسمي الأردنيّ والذّي انبرى و على مدى عقود مضت وظهر بشكل لافت مؤخّراً عقب الأحداث الأخيرة إلى عقد هذا التّماهي بين (الملك والوطن والحكومة) وهو ما ساعد في تشكيل رؤية ضبابيّة وغائمة للهويّة الأردنيّة؛ فالوطنيّ أو ما يمكن تسميته بـ “الأردنيّ” وفق هذا المنظور هو ذاك “الموالي” للملك والوطن والحكومة” معاً؛ وعليه فإنّ الموالي للحكومة هو الذي يمكن وسمه بـ “الوطنيّ” أو “الأردنيّ” في نهاية المطاف، والمعارض للحكومة هو على أقلّ تقدير غير الوطنيّ أي غير الأردنيّ، و في هذه الحال فإنّ أي خروج أو حراك شعبيّ ضد الحكومة يعني بأنّه ضدّ الملك أو ضدّ الوطن بالضّرورة، وهو الأمر الذي ساعد في خلط الأوراق ووسم الحراكات المختلفة باللاوطنيّة والمعارضة للملك والوطن . فيما يفترض تحييد الملك عن مرمى تشكيل الهويّة الأردنيّة، وبالإضافة إلى ذلك فأنّه من المستهجن أن تكون الحكومة طرفاً من أطراف أو من مكوّنات الهويّة الأردنيّة!

ونظرة سريعة على الخطاب الإعلامي الرّسميّ وكيفيّة تعاطيه مع تلك الأحداث توقفنا على حقيقة “لعبة الّلغة” التي عزّزت فكرة أنّ بحث السّلطة عن مخرج يكمن في الضّرب المتسارع على وتر (الهويّة المهدّدة) .. فكان أيّ تحرّك شعبيّ يجري بدعم من الحكومة يوسم بـ “الوفاء للوطن”، نداء وطن، بمعنى التّشديد على مسألة الوطنيّة لجعل أي حراك مضادّ للحكومة هو على أقلّ تقدير غير وطنيّ وبالتّالي غير أردنيّ. ويلاحظ أنّ اختيار ” الموالي” يأتي دائماً لأي حزب أو تحرّك أو حراك داعم للحكومة وبالتالي للوطن والملك في مقابل “المعارض” على ما تحمله هذه المفردة وفي ظلّ التّعريف الرّسميّ للهويّة الأردنيّة من معارضة ( للوطن والملك والحكومة ) معاً. ولا ريب أنّ هذا الخطاب والذي ساهم في ترويجه العديد من وسائل الإعلام والإعلاميين المحسوبين على السّلطة نجح في تعزيز الشّرخ القائم أصلاً في هويّة مُحيّرة، وساعد في تأزيم الموقف أكثر بدلاً من النّزوع نحو التّهدئة.

إلاّ أنّه لا يمكن التّغاضي ومن وجهة مقابلة عن المزالق التي وقعت فيها تلك الحراكات الإصلاحيّة فقد ساهمت هي الأخرى في تعميق الشّروخ في الهويّة الأردنيّة ؛ إذ أنّها بتشديدها على أنّ من يقود حركات الإصلاح هم من ( أبناء العشائر ) تكون بصورة أو بأخرى قد أعادت إنتاج الخطاب الرّسميّ الحكوميّ ذاته، فأكّدت أنّ الشّق الأوّل من الهويّة هو الذي يطالب في الإصلاح فيما الشّق الثّاني يتوارى خائفاً من تهم (التّخوين والعمالة). وهم أي أبناء العشائر غالباً ما يظهرون كواجهات إعلاميّة ليكونوا دليلاً دامغاً على أنّ حراكهم هو “حراك وطنيّ”! وواضح أنّ في هذا تأكيد على الرّواية الرّسميّة الحكوميّة عن مفاهيم الموالاة والمعارضة ورضوخ لوجهة النّظر الحكوميّة في تصنيف الأردنيين، فبدلاً من أن تفرض الحراكات الإصلاحيّة رؤيتها وتعريفها المقابل والحضاريّ والمبنيّ على أسس المواطنة الحقّة للأردنيّ والوطنيّ ورفضها للتّصنيف الرّسميّ راحت تؤكّد بكثير من التّخبط دفاعها عن حراكها بتثبيت رؤية الحكومة، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الحراكات الإصلاحيّة شعّبت من أهدافها ولم تراعِ أن تكون جبهتها الدّاخليّة هي المستهدفة الأولى والوحيدة مما فتح المجال واسعاً للحكومة في تأكيد مواقفها، وفي النّهاية فضّلت الحراكات الإصلاحيّة أن تخلي الأسماء التي انتقتها للتّعريف بنفسها من أي إشارات إلى “الوطنيّ / الوطنيّة / الأردنيّ … ” وكأنّها رضيت بتسلميها للطّرف المقابل.

وغني عن القول إنّه في ظلّ هذه الرّؤية المشوّشة لتعريف الهويّة الأردنيّة فإنّ الكثير من الأمور ستظلّ عالقة وتحتاج إلى الحسم وعلى رأسها مطالب الإصلاح ذاتها، بل إنني أرى أنّ فرض رؤية جديدة لتعريف الهويّة الأردنيّة أو على الأقل مقابلة للخطاب الرّسميّ هي مَهمّة توازي في جدّيتها مطالب الإصلاح ذاتها ، وعليها أن تكون على رأس الأولويّات إنْ أردنا أن يكون الإصلاح مبنيّاً على أرض صلبة تشاركيّة تجمع الأردنيين كلّهم تحت غطاء واحد والمفترض أن يكون واحداً وهو (الوطن فوق الجميع).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية