رام الله الشقراء: ترويض النمر

الخميس 15 آب 2013

بالطبع، يعنيني في الكتب، وخاصة الروايات، ما أشعر معها بأنها يمكن أن تلامس تجارب حياتية عشتها أو لا ازال أعيش بعضها. ولا أخفي حماسي لقراءة أي عمل اكتشف فيه تشابهاً معي أو مع حياتي. بهذا المعنى قد لا أكون موضوعياً في “نقدي” ولا أريد، فأنا هنا أعبر عن رأي شخصي لا أكثر ولا أقل.

ربما لهذا السبب تحمّست جداً لقراءة رواية الفلسطيني عباد يحيى “رام الله الشقراء”، وقد قراءتها دفعة واحدة، على نفس واحد بدون توقف وبمتعة.

Ramallahبالإمكان القول أن “رواية” يحيى لا تصنف ضمن فن الرواية. هي مجموعة رسائل متبادلة بين الكاتب وصديقته عبر الفيسبوك. الرواية بهذا المعنى تفتقد، مثلاً، للحبكة، تفتقد للتطور الدرامي للشخوص وتشريحها…الخ.

مع ذلك، يمكن اعتبار “رام الله الشقراء” رواية “مقاطع”، كل مقطع فيها يكاد يكون منفصلاً عن المقطع الذي يليه، لولا ثيمة الرواية الرئيسية ألا وهي انكشاف رام الله لـ”الأجانب” و / أو “التمويل الأجنبي”.

“مقاطع” عباد يحيى مكتوبة أيضاً بخفة. خفة في أسلوبها وفي شخوصها، وفي لغتها، خفة متحللة من كل ثقل وتعقيد. خفة تسخر من واقع معاش لا يحتمل أن يؤخذ على محمل الجد.

بالمناسبة، سنجد أسلوب عبّاد في عشرات وربما في مئات الروايات العربية المعاصرة.

على أي حال، لا أنوي نقد أو حتى عرض “رام الشقراء”، فلست ناقداً ولا أملك أدوات النقد. لكني وقد قرأت الرواية على نفس واحد خلال حوالي ثلاث ساعات بدون توقف او ملل شعرت أنها تستحق أن يكتب عنها وفيها وتستحق النقاش الحقيقي.

أكثر ما يعنيني في “رام الله الشقراء” هو تحولات مدينة رام الله، وخصوصاً تحولات “يسارييها” أو “مناضليها” أو “أبناء التنظيمات” السابقين فيها، وكذلك تحولات المدينة “الثقافية” و”مواتها الكفاحي”، إن جاز التعبير، وانكشافها بالكامل لمستعمرها وكأنها أصبحت مدينة “مفضوحة”.

شعرت وأنا أقرأ الرواية بأن الكاتب مشغول بفكرة تراجع “كفاحية” رام الله، هذه المدينة التي كانت من أكثر المدن مقاومة خلال الانتفاضتين الاخيرتين، وهمدت الآن تماماً وكأنها أصبحت “مختبر” للإنسان الفلسطيني الجديد الذي روضته اتفاقيات أوسلو وتبعاتها.

هذه المدينة التي كانت من أكثر المدن مقاومة خلال الانتفاضتين الاخيرتين، وهمدت الآن تماماً وكأنها أصبحت “مختبر” للإنسان الفلسطيني الجديد الذي روضته اتفاقيات أوسلو

إنها فكرة “نبيلة” بالطبع، فالسؤال اليوم في خضم “الربيع العربي” هو لماذا يصمت الفلسطيني الذي أدخل لقاموس السياسة العالمي مفردة “انتفاضة” فيما تنتفض غالبية الشعوب العربية بلا هوادة ضد حكامها؟

صحيح أن الفكرة النبيلة قد لا تصنع أدباً جاداً، لكن عباد كتب رواية أبناء جيله، فهذه هي رواية الجيل الجديد كما أسلفت. من الظلم مقارنة رواية هذا الجيل مع رواية ديستوفسكي او ماركيز او كافكا..الخ، والمقارنة ليست مطلوبة، ويكفي ان هذا “النمط” من الروايات الجديدة اصبح الاكثر مقروئية والأكثر تداولاً ونقاشاً، خذ مثلا رواية “عمارة يعقوبيان” او “بنات الرياض” او “الفاعل” او “وداعا أيتها السماء”..الخ.

ربما لم يكن عباد، بالنسبة للبعض، موفقاً في اختيار والتركيز على فكرة “الأجانب” او “الفرنجة”، كما يسميهم لتناول حقيقة انكشاف المدينة على مستعمرها. وربما سوف يسقط هذا الاختيار الكاتب فيما يسميه هو “الفرنجة فوبيا”، لكن الاختيار هذا يبقى من حق الراوي فهو حر في اختيار السبب أو النتيجة، الظاهر او المضمون الذي يريد.

مع ذلك، فموضوع ” غزو الاجانب” و”التمويل الاجنبي”، الذي صار “أفيوناً” للشعب الفلسطيني، بحسب الوصف في فيلم “أفيون الممولين“، لجورج عازر ومريم شاهين، الذي بحث في أثر هذا التمويل في تدمير المجتمع الفلسطيني ومن ثم ترويضه. هذا الموضوع يستحق ليس رواية بل روايات.

عباد كتب عن هؤلاء “الأجانب”، عن تسللهم الى كل مفاصل حياة رام الله واهلها، عن انكشاف هذه المدينة عبر هؤلاء على مستعمرها، عن تحكم هؤلاء في كل مناحي الحياة من الثقافة إلى الاقتصاد إلى الصحة والزراعة…الخ.

وكتب أيضاً عن أثر هؤلاء ومعهم التمويل الاجنبي في تفريغ مفهوم المقاومة، وتحويل المقاومين وأبناء التنظيمات واليساريين السابقين وحتى الأسرى المحررين من سجون اسرائيل إلى مجرد “نشطاء”، حقوقيين أو “ثقافيين”..الخ يلاحقون “البروبوزلات” و”الفند رايزينغ” و الـ “إن جي أوز”.

وعلى فكرة، ألا يجري هذا الأمر في عمان أيضاً التي تشهد “غزواً” كبيراً “للأجانب”، وتتدفق على المنظمات الاهلية فيها ملايين الدولارات، وتعيد معها ترتيب أولويات المجتمع والحراك الاردني؟ ألا تشهد “تسرب” مئات الكوادر الحزبية وخاصة اليسارية من الأحزاب إلى هذه المنظمات؟ وبهذا المعنى ألا تلعب هذه المنظمات دوراً مهما في إفقاد الأحزاب والعمل الحزبي أهميته؟

ألم يتحول النشاط الثقافي عندنا، وبسبب التمويل الاجنبي غالباً، الى “مناسبات نخبوية”، وبعض الحراك المعارض إلى “مجرد موضة” أو “كرنفالات مبهرجة”؟

في النهاية سوف تتجمع كل “أعراض” اتفاق “أوسلو”، الأجانب، التمويل الاجنبي، تحول “المقاومين” بالسلاح الى مقاومين بالثقافة والتراث وتحول “مناضلي” منظمة التحرير إلى مكاتب ومراتب، والنهج الاقتصادي، ونمط الاستهلاك والقروض والخدمات، ونخبوية الثقافة، والأجهزة الأمنية، كل هذا وغيره، سوف  تتجمع لترويض مدينة رام الله، ترويض النمرة التي كانتها في الانتفاضات السابقة، وسيكتفي من فيها “من الاشياء بأسمائها فقط”، فكل شيء فيها الآن مبتور فعلاً.

الرواية قد تكون صادمة بخروجها عن رومانسية رواية المقاوم الفلسطيني، كروايات ابراهيم نصر الله مثلا، التي حولت هذا الفلسطيني الى مجرد فكرة ووهم

المهم، بالنسبة لي، فإن رواية “رام الله الشقراء”، رواية ساخطة، مريرة رغم خفتها. وهي واحدة من بين بضعة روايات فلسطينية، لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، التي تناولت الواقع الفلسطيني بالنقد، وهي لهذا قد تكون صادمة بخروجها عن رومانسية رواية المقاوم الفلسطيني، كروايات ابراهيم نصر الله مثلا، التي حولت هذا الفلسطيني الى مجرد فكرة ووهم وليس إنساناً أولاً وأخيراً. فضرّته أكثر مما نفعته.

بالمناسبة، كان نقد الواقع الفلسطيني أو التعامل مع الفلسطيني كإنسان او مع الفلسطينين كشعب ومجتمع له ما له وعليه ما عليه ممنوعاً وشبه “تابو”. في نهاية سبعينيات القرن الماضي أصدر الكاتب الفلسطيني فواز تركي روايته “المجتثون: يوميات فلسطيني في المنفى”. الرواية هذه نقلها الى العربية القاص تيسير نظمي.

رواية تركي ستكون أول رواية فلسطينية تتناول بالنقد واقع “المقاومة الفلسطينية”، لتنزع عنها هالة الرومانسية والقداسة. لكن قيادة منظمة التحرير ستحارب الرواية التي ستختفي تقريباً من الاسواق ولن يعاد طباعتها رغم أهميتها.

بعد رواية تركي لن نقرأ اي رواية فلسطينية تتعرض بالنقد لواقع الفلسطيني و “ثورته” لما ما قبل عدة أعوام فقط عندما يصدر ربعي المدهون روايته “السيدة من تل ابيب” وسامية عيسى في روايتها “حليب التين” أو رواية “الحاسة صفر” لأحمد ابو سليم، اذا لم تخني ذاكرتي.

* الصورة في الأعلى بعدسة دعاء علي

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية