مقاومة التطبيع: في المفهوم ونقد الأدوات

الإثنين 28 كانون الثاني 2013

 بقلم أحمد الشولي

 تطبيع المشروع الصهيوني في المنطقة ممارسة قديمة قدم الصهيونية نفسها، ربما تعد اتفاقية فيصل – وايزمان حجر الأساس لها، تلتها ممارسات بعض القيادات الفلسطينية الانتهازية والتنافسية مثل حضور افتتاح الجامعة العبرية في ١٩٢٥ برفقة آرثر بلفور وصماوئيل هاربرت، والوقوف خارج الخيار الشعبي لصالح القوة الاستعمارية ضد المقاومة والإضراب والتنظيم، وتبنّي بعض من كانوا يتقوّلون بالماركسية لقرار التقسيم في سياق تبعيتهم الميكانيكية للدولة الستالينية، والتفاهمات مع الاستعمار خلال الخمسينيات، وصولاً إلى خطاب بورقيبة في أريحا في ١٩٦٥ باعتباره دعوة رسمية للقبول بوجود “إسرائيل” كدولة جوار، تبعها قبول منتقدي بورقيبة بقرار مجلس الأمن ٢٤٢، وبرنامج النقاط العشر في ١٩٧٤، ومبادرة السادات في ١٩٧٧، والمبادرة السعودية للسلام في ١٩٨١، والانفتاح على مصر المباركية رغم تماهيها مع مصر الساداتية في ١٩٨٢، ومن ثم إعلان دولة فلسطين المستند إلى قرار التقسيم ومرجعية الأمم المتحدة كحد أقصى في ١٩٨٨، فمؤتمر مدريد في ١٩٩٢، فاتفاقية أوسلو في ١٩٩٣، ملحقاً بها اتفاقية وادي عربة في ١٩٩٤ ومشروع الشرق الأوسط الجديد – القديم، القائم على الاندماج الاقتصادي الإقليمي المتقدم على الأطر السياسية، وعلاقات التطبيع التجاري والسياحي من عُمان وقطر وحتى تونس والمغرب، وقرارات المجلس الوطني الفلسطيني في ١٩٩٦ و١٩٩٨ التي قامت بالتنازل عن بنود تدمير الكيان الصهيوني في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، والمبادرة العربية للسلام في ٢٠٠٢، مضافاً إليها دور تركي مبادر إلى إنجاز مشروع السلام، وصولاً إلى تصالحية قوى إسلام سياسي صعدت إلى سدة الحكم أو كادت، وانتهاءً بأنظمة إدعاء المقاومة والممانعة في سوريا وليبيا التي لم تتوقف عن إطلاق نداءات استغاثة من انتفاضات جارفة، وذلك من خلال توجهها للقوى الإمبريالية لمقايضة بقائها بأمن “إسرائيل”. وهذا فقط في الممارسة والخطاب السياسيين الهادفين إلى شرعنة واقع ما أو رسم سياق مستقبلي، دون الولوج إلى سجلات التآمر والخيانة التي يزخر بها التاريخ الرسمي العربي بهدف تقويض أي مشروع مقاوم.

جميع هذه العناوين هي ممارسات تطبيعية مع الصهيونية، حيث يعني تطبيع الكيان الصهيوني في المنطقة قبول وجوده كحالة دائمة تبررها ذهنية الواقعية السياسية التي يتم تعزيزها في نظام العلاقات الدولية، ونجاح مسعاه النهائي في انتزاع الاعتراف بمشروعيته من خلال إزالة أي تهديد على كيانه وحصرها في بنود الخلافات القابلة للحل سياسياً، والمضي معه في شراكات تنهي حالة الصراع إلى حالة علاقات دول تعترف ببعضها البعض وتبحث عن مجالات لعلاقات متبادلة غير تناحرية. التطبيع إذاً عملية بنائية في المقام الأول، تتطلب إقراراً بمرجعية لها حقائق ومسلمات ومنطلقات محددة يتم صياغة السياق من حولها، وتبقى الخيارات المستقبلية ضمن هذه العملية بالتالي محصورة في أفقها، ضامنة للمشروع الأساسي الذي أنتجها، وهو الكينونة الصهيونية المتمثلة في دولة الاحتلال ومشاريعها المستقبلية بعد أن حسمت ماضيها، وهو ما يعني بالتالي حرمان شعوب المنطقة من حقها في أرضها وفي تشكيل خياراتها الحرة عليها وإقرارها أو دفعها تدريجيا إلى الإقرار بفقدان هذا الحق.

نهج التطبيع حتمي تماما للأنظمة العربية القائمة غير القادرة على طرح تحد حقيقي أمام الوجود الصهيوني في المنطقة، حتى وإن توفرت الرغبة، الغائبة أيضاً. يعود هذا إلى طبيعة الدول القُطرية العربية الفاقدة لإمكانات التحرر على أسس مادية، فهي دول تم تصميمها استعمارياً لتبقى تابعة للمراكز الإمبريالية بأنواعها، تحكمها شرائح كمبرادورية تتكئ على دعم خارجي وتنفذ أجنداته وتتماهى معها، وتفتقر إلى تمثيل شعبي يملي عليها خياراتها. فهي وإن ادّعت بغير ذلك، فلا مصير لها إلا ويمر من بوابة تطبيع دولة الاحتلال إن عاجلاً أم آجلاً، وذلك بحكم حاجتها إلى الحفاظ على بنيتها السلطوية التي تضمن مصالح هذه الشرائح الحاكمة.

تتقدم مشاريع التطبيع عملياً بدعم سياسي ضمن المنظومة القائمة، تشرف عليها بيروقراطية الدولة المضبوطة أمنياً، وتحظى بدعم مادي من شرائح النخب الاقتصادية الموكل لها التنفيذ العائد بالربح، وبغطاء اجتماعي من قبل أطر تمثيلية مفرغة من مضمونها الشعبي أو أنها أطر غير قادرة على تغيير هذا الواقع. تطرح هذه المنظومة بالتالي فرصاً سياسية واقتصادية لتجديد بنية السلطة في ظل افتقاد المجتمع للقدرة على إنتاج سياقات بديلة بعد أن تداخلت المصالح “الوطنية” مع مصالح الاحتلال وتم تفريغ التناقض داخل المجتمع بدلا من التناقض مع الاحتلال. تنتج هذه البنية الفوقية خطاباً وممارسة سياسيين مغايريين، وتنتج تدريجيا وعياً مغايراً بالاحتلال، يقفز عنه إلى ما بعده دون انتهائه.

ليس الحديث هنا عن الرغبة بالتطبيع، فالموقف المُدّعي بأن الكيان الصهيوني كيان احتلال تكون علاقتنا معه علاقة صراع وتفكيك هو موقف يدين التطبيع جملة وتفصيلاً من حيث المبدأ، ويشرعن من أدوات المقاومة ما يكفل دفع النضال ضده إلى الأمام، ولكن ليس كل تطبيع رغائبياً؛ وهو ما يحتم علينا كأطر وأشخاص مناهضين للتطبيع التعرض له بعد التأكيد على الثابت الأساسي: كل تطبيع سواء كان رغائبيا أو لم يكن، يقوّض مسار التحرر الحقيقي.

أولا، محور بناء مفهوم التطبيع ينطلق من أن البناء الاقتصادي هو محرك الدفع الفعلي باتجاهه، حيث تفاقمت الأزمات المالية الحكومية التي أدت إلى اعتناق السياسات النيوليبرالية التي وفرت مداخيل للإنفاق الحكومي طالما رعت علاقات السوق الحر من اتفاقيات التجارة والاستثمار والتدفقات النقدية غير المقيدة، وهي سلسلة من الظواهر أخذت تترسخ في المنطقة تدريجيا. في هذه المواكبة للنظام الاقتصادي العالمي القائم على التكتلات، يأتي اقتصاد الكيان ببنيته المتقدمة هيكلياً على اقتصادات المنطقة كمركز إقليمي يضبط حركة رأس المال واستغلال الموارد وخارطة الصناعات القطاعية بما يضمن استمرار مركزيته التي تعفيه من مواجهة تناقضاته الوجودية والداخلية، كل هذا يتم بينما الصراع السياسي على الأرض لم يحسم، حتى من وجهة نظر دعاة التطبيع في مقابل السلام، وهذا جوهر السلام الاقتصادي الذي ينجز ما تعجز عنه المبادرات السياسية.

يتوجب على سبيل المثال دراسة مدى اندماج الاقتصاد الأردني باقتصاد الكيان الصهيوني والاقتصاد الرأسمالي العام المنتج للهيمنة والظلم والتبعية، ولكن ليس من المبالغة القول استباقا بأن كامل الدورة الاقتصادية المحلية أصبحت مندمجة بالدائرة الاقتصادية للكيان وامتداداته الرأسمالية الدولية، سواء كان ذلك على صعيد السياحة، أو التجارة الخارجية، أو الاستثمارات المشتركة في الزراعة والمياه والطاقة، وأثر ذلك على التمويل الحكومي وعلى هيكل الأسعار بحيث أنه من غير الممكن أن يكون أي نشاط اقتصادي في الأردن قائماً اليوم دون المساهمة والتأثر في حالة التداخل هذه. إن هذا الواقع تحديداً هو ما يحتم بالضرورة على المنخرطين في مقاومة التطبيع تبني فكر مقاوم لكامل المنظومة المنتجة لسياق التطبيع، فالواقع ليس ستاتيكياقابلا لتطورات منعزلة عن بعضها البعض، بل يتطلب فهم البنية الكلية للكيان الصهيوني وروافد التغذية التي تصب في صالحه، وبمعنى أن التطبيع معه نتيجة حتمية لصيرورة التطورات الاقتصادية التي نعيشها نحن، وأن فعالية الهياكل الاجتماعية المتضادة الفوقية والتحتية هي موقع إنتاج السياق.

ثانيا، لا بد من وضع أدوات مقاومة التطبيع ضمن فلكها الصحيح. فمثلاً: المقاطعة بشقها الأول المقاطع لكل التعاملات السياسية والتجارية والثقافية مع الكيان، وبشقها الثاني المقاطع للأطراف الثالثة المتعاملة مع الاحتلال تسقط في إشكالات مفاهيمية كبرى. تذكر أدبيات حركة المقاطعة العالمية أنها دعوة موجهة منذ ٢٠٠٥ من قبل قوى المجتمع المدني الفلسطيني لمقاطعة وحصار وسحب الاستثمارات من “إسرائيل” إلى أن تمتثل لقرارات الشرعية الدولية “وتقر بحقوق الفلسطينيين المشروعة”، وهذه بلا أدنى شك دعوة إلى التطبيع فعلياً معلقة على شرط ما، حيث يختلف أصحاب هذا الطرح بين حلول الدولة الواحدة والدولتين، وهي تطبيع في حالتها الأفضل القائمة على الدولة الواحدة حيث يتم تقزيم الصراع السياسي من حق شعوب المنطقة في توليد خياراتها الحرة إلى صراع مواطنة في دولة فصل عنصري قادرة على البقاء بأغلب بنيتها بعد قيامها باعتناق مبادئ الديموقراطية المنشودة، وهي حالة فريدة من نوعها ننتقل فيها إلى سياق ما بعد استعماري رغم بقاء المشروع الاستعماري نفسه قائماً، حيث تم تقزيم أفق الصراع معه من كينونة إلى صيرورة. الصراع في فلسطين والمنطقة من حولها ليس صراعا على دولة أو على شكلها، وليس صراعا على مواطنة، بل هو صراع لإنهاء الظلم التاريخي المتمثل بالكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ومشروعه ونتائجه، ويُحكم على أشكال التنفيذ بمدى اتساقها مع هذا التعريف للصراع.

هذا التقزيم هو الذي ينتج السياق الذي يعاد فيه اختراع فلسطين ثانيةً بعد أن تم اختراعها في اتفاقية سايكس بيكو، وهو نفس السياق الذي يكتشف لبنان ذاته بعد الطائف وبعد الحريري أنه حقيقة غير قابلة للنقض، ونفس السياق الذي ينظر فيه بعض اليسار لجذور الدولة الأردنية منذ عصور الإنسان القديم، وهو نفسه أيضا الذي دفع ببشار الأسد مؤخراً ليقول بأن لسوريا – وقصده هنا المزرعة التي ورثها عن أبيه – حضارة تعود إلى آلاف السنين. هكذا يعاد اختراع ذواتنا وهوياتها في قمة انتصار مشروع الاحتلال من حيث قبولنا بوجوده وتحوير وعينا بأنفسنا بما يلائم ذلك تحديداً، تجاوزاً على سبيل المثال للوعي الشعبي الذي أفرز قراراً في المؤتمر السوري العام المنعقد في ١٩١٩/٧/٢ في دمشق ينص على “سابعاً: إننا نرفض الإدعاءات الصهيونية لتأسيس دولة يهودية في ذلك القسم من جنوب سوريا المسمى فلسطين، ونحن نعارض أي هجرة يهودية إلى أي جزء من أجزاء البلاد”. الانصياع للمنطق القُطري هو مرجعية خطاب المقاطعة المشروطة هذه، وهو تثبيت لسياق الكولينيالية القائم على تمزيق المنطقة، والتحاور داخلها إن كان الفلسطينيون سيقبلون بالتنازل التاريخيالمتمثل في قبول دولة الاحتلال على الأراضي المحتلة في العام ١٩٤٨، أو كونهم أكثر تقدميةيسعون إلى حل الدولة الواحدة.

 فأي خطاب هذا الذي نحمله ونعمل من خلاله؟ هل نحن في صدد التمييز بين منتجات مستوطنات الأرض المحتلة في ١٩٦٧ ومنتجات مستوطنات الأرض المحتلة في ١٩٤٨ على قاعدة شرعية بعضها ولا شرعية بعضها الآخر؟ هل نطلب من الأطراف الثالثة بمقاطعتنا لها إن تواطئت مع الاحتلال أن تدفع باتجاه الحل المكفول في الشرعية الدولية؟ هل الحل المكفول في الشرعية الدولية مرحلة تكتيكية أم وجهة نهائية؟ ومن أجاب على هذا السؤال الأخير تحديداً؟ وما هي قاعدته الاجتماعية؟ وهل هذا الأمر مطروح أساساً لتداول ديموقراطي تحسمه أغلبية، أم أنه شأن وجودي قيمي هوياتي يمثل الانتقاص منه انتقاصاً من التكوين الإنساني للمعنيين بالأمر؟

ننبري في الأردن على سبيل المثال لحملات تقاطع عروض سيرك عالمي لأنه سيقوم بتقديم عروض داخل الأرض المحتلة، ونحتاج للأسف لخوض نقاشات مستفيضة لإقناع الناس بهذا الطرح، أو لمقاطعة متاجر تفاخر بصهيونيتها وهي تستحوذ على جزء كبير من الطلب المحلي، أو ملاحقة شحنات من الخضار على بسطات ومتاجر التجزئة، وشركات الاستيراد والتصدير، والاستثمارات المشتركة، ومبادرات التطبيع الأكاديمي والفني والرياضي بهدف تجريمها في الوعي الشعبي. الدافع وراء هذه الحملات صحيح دائماً، ولكن لا بد من أن نقف عند أسباب محدودية نجاحنا في الحشد ضد ظواهر التطبيع. فالمقاطعة مفرغة من مضمونها إذا لم تكن في إطار مجابهة التطبيع شمولياً، ومجابهة التطبيع قاصرة إن تغافلت عن كامل المنظومة المنتجة لسياق التطبيع.

أما المحور الأخير فيتعلق بترتيب أولوياتنا كشعوب خاضعة مباشرة لهذا الاستعمار وتعيش في سياقه المباشر وتنخرط في النضال ضده. نعم، بنية الكيان تقوم على كامل هيكل المنطقة وليس على نمط احتلالها العسكري المباشر لفلسطين فقط. إنطلاقا من هذه القناعة، تبرز الإشكالية هنا في صياغتنا لأدوات نضالية تتجاوز المقاطعة كأداة ضغط إلى مربع العمل المبادر إلى الاشتباك، فكيف لنا أن نعزز من بنائنا الاجتماعي العضوي في المنطقة باعتباره الحاضنة الشعبية المنتجة للعمل المقاوم الفعال دون تعزيز الهيكل الفوقي صاحب السلطة والمستفيد من التطبيع والمؤدي في النهاية إلى تفريغ الجهد من مضمونه؟ يبرز هذا السؤال من واقع أن الكيان الصهيوني لا يمانع خوض صراع اجتماعي طبقي يتم الاعتراف فيه بموقعه كسلطة، وذلك تحديدا من حيث ثقته في إمكاناته المادية على خوض هذا الصراع بعد أن تم تعديل شروط الصراع المرجعية، بحيث لم يعد صراعا وجوديا، بل على طبيعة هذا الوجود.

تتجلى هذه الأشكال عموما في مساهمات فردية أو جماعية تحمل عناوين يجمعها مبدأ “العمل من داخل النظام”، مثل الأنشطة التضامنية والتعاونية والشعبية التي تقفز عن هذا الواقع تحت مبررات تسبقه في الأولوية حسب البعض، وهي البناء الاجتماعي والحق في التجذير من خلال استغلال الفضاء العام، منها مثلا أيُّ دخول إلى الأراضي المحتلة بشكل لا يتطلب اعتراف الكيان بنفسه كسلطة احتلال، كالدخول لإقامة حفلات فنية في الأوساط الفلسطينية، أو السياحة الدينية، أو لمبادرات التضامن والتشبيك. القناعة هنا أن هذه الممارسات لن تفرز واقعا مغايراً بل مختلفاً ربما، وهي تنتج في ظل غياب إطار شعبي قادر على طرح خيارات تغيير حقيقية تنخرط فيها قطاعات واسعة من أصحاب المصلحة في مجابهة التطبيع، حيث يسعى في ظل هذا الغياب البعض إلى حلول فردية غير ذات تأثير نهائي في مصلحة النضال ضد الاستعمار، أو إلى أوهام الخلاص الفردي أو الجماعي بفعل ما يمكن فعله الآن. المطلوب اليوم التنبه إلى هذه التناقضات لدى صياغة أجندات عملنا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية