الهوية وتوثيق القصة المشتركة

الأحد 24 حزيران 2012
yacoub-zayadeen-jordan

هي ليست أزمة موسمية، ولكنها تبرز في مواسم مناقشة قانون الانتخاب، وتعود إلى السطح في مواسم سحب الجنسيات، وفي معادلات تشكيل الحكومات وفي أعقاب صدور مقالات جهاد الخازن المتعلقة بالأردن. وأحسب أن أزمة الهوية ليست وليدة اللحظة ولم يطرأ عليها أي تغيير منذ عشرات السنين، حتى أن كتاباً صدر في العام 1997 حول العلاقات الأردنية الفلسطينية يصلح لوصف هذه العلاقات اليوم أيضا، لأننا ندور في ذات الحلقة المفرغة.

خلاصة الحديث أنني سئمت من الإعلام الأسود الذي يحيط بنا من كل صوب، وبالأخص من كتابات ناهض حتر الذي لا يمل ولا يكل من الدعوة إلى دسترة قرار فك الارتباط، ويساوي بين “الخونة” وبين الرافضين لهذا القرار، بل ويقسم المواطنين إلى فئات بحسب “جرعات الوطنية” التي يحملونها!

خلال الأشهر القليلة الماضية، سنحت لي فرصة البحث في تاريخ الأردن الحديث عن القصص التي لا يتم توثيقها، فلا يعقل أننا عشنا معا أكثر من ستة عقود ولم ننجح في نسج قصة واحدة مشتركة. على أهمية توثيق النكبة والنكسة وغيرها من الأحداث التي مرت بها القضية الفلسطينية، والتي لا أحسب أن عاقلا لا يؤمن بأهمية توثيقها، فإنني لا أرى أن هناك جهودا حقيقية لتوثيق “القصة المشتركة”، فهل عاش في الأردن كل هؤلاء المواطنين من جميع الأصول والمنابت ولم يستطيعوا أن يخلقوا قيمة واحدة مشتركة أو قصة واحدة تعبر عنهم جميعاً؟

لمن يبحث عن التفرقة، فإن التاريخ مليء بالألغام التي لا يجدر بنا الاقتراب منها، لربما لأنه لا يرى إلا لحظة الصدام في أيلول ١٩٧٠ ولا يذكر من القصة كاملة إلا مؤتمر الرباط واعتراف الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ثم تأخذه الذاكرة إلى خطاب فك الارتباط، وتشكل هذه الأحداث مجتمعة الوعي الذي يرغب في نشره.

هذه أحداث حقيقية مرت بها المملكة، ولكنها ليست الوحيدة، وهذا التاريخ ليس كاملاً. في زمن النضال ضد حلف بغداد، خرج الأردنيون من شتى الأصول والمنابت إلى الشوارع منددين بالانضمام للحلف، وعندما أخذهم نشاطهم السياسي إلى معتقل الجفر الصحراوي، اعتقل ابن قلقيلية كما اعتقل ابن الكرك، ويشهد كل من قضى تلك السنين في المعتقل أن “كلمة أردني/فلسطيني لم تتردد على مسامعه أبدا في تلك اللحظات”.

وكما ناضلوا معا في سجن الجفر، ناضلوا معا في أفضل انتخابات شهدتها المملكة بحسب المؤرخين في عام 1956، ولم ينتخب الناس في ذلك الحين لأسباب عشائرية أو مناطقية، حيث تكفي شهادة ابن قرية السماكية الكركية د. يعقوب زيادين الذي نجح بأصوات جماهير القدس العربية عن دائرة القدس وكان أول نائب شيوعي يصل إلى قبة البرلمان، ولم تكن قصته قصة شاذة في ذلك الزمن.

عندما شكلت الحكومة البرلمانية اليتيمة في تاريخ المملكة، والتي ترأسها سليمان النابلسي، فإنها جاءت على إثر انتخابات ناجحة شارك بها وقادها الأردنيون من مختلف الأصول في أجواء لا تشبه أبداً أجواء اليوم، فقد ذكر د. زيادين أن الانتخابات التي ترشح لها كلفته “100 دينار” دفعها كأجرة للباص الذي استأجره ولشراء ساندويشات للشباب والطلاب الذين كانوا يطرقون أبواب المنازل معه ويصلون الليل بالنهار لمساعدته، ولم يدفعها لقاء شراء صوت أو وليمة.

ويعترف  زيادين أن هذه الانتخابات لم تكن لتنجح لولا أن السلطة تعلمت الدرس آنذاك من تجربة انتخابات عام 1954 ومن مظاهرات حلف بغداد وغيرها، والتي كانت جميعها نتاج نضال مشترك لا يعترف بالأصل والمنبت كمعيار للتصنيف.

ثم تلي هذه القصة قصص أخرى من ذكريات د. حازم نسيبة، وهو من أبرز الشخصيات الأردنية الفلسطينية التي عملت وناضلت من أجل القضية الفلسطينية. لا ينسى نسيبة والذي كان يشغل منصباً وزارياً في الستينيات من القرن الماضي حديث الملك الراحل الحسين بن طلال لكبار الشخصيات الفلسطينية أثناء زيارته للضفة الغربية، حيث رفض المتحدثون آنذاك فكرة اقامة دولة مستقلة لأن “المشوار من عمان لنابلس ساعة” ولأن لا شيء يفرق بين الشعبين “سوى النهر الذي لم يعد نهراً اليوم”!

وإذا وصلنا إلى قرار فك الارتباط، فحتى هذا القرار الذي اختلفنا في تفسيره وتأييده، فيقول من عاصره بأن الملك الراحل لم يقصد بهذا القرار أن يقسم الشعب إلى قسمين، وانما “كانت رسالة واضحة لإسرائيل والعالم بأن هناك قضية فلسطينية ما زالت عالقة”. يبني أصحاب هذا التوجه رأيهم على تصرفات الملك الراحل التي برهنت على أن القرار ليس موجها للداخل، فهو لم يتردد في ضم وليد الخالدي، وهو من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، إلى الوفد الأردني المفاوض بعد أن رفضت اسرائيل وجود أهل القدس على الطاولة، فقدمه على أنه من أعضاء الوفد الأردني وبقي على الطاولة. ثم دار حديث آخر بين الملك الراحل وأعضاء من الجانب الفلسطيني المشارك في المفاوضات مفاده أن الجانب الفلسطيني يرغب في التأكيد على الهوية الفلسطينية في كل فرصة متاحة على “أن لا يفهم من ذلك أنه موجه للأردن والهوية الأردنية الواحدة” وانما هي رسالة موجهة للعدو، فما كان من الملك الراحل إلا أن وافق بالكامل على هذا الطرح ولم يخطر بباله أن يقلق من ابراز هوية فلسطينية في مواجهة الاسرائيليين.

خلاصة القول أنني لا أدعو إلى العودة عن قرار فك الارتباط، وانما فقط أشعر بالغثيان من مستوى النقاش الذي يجرنا إليه جهاد الخازن وقانون الانتخاب ومباريات الفيصلي والوحدات.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية