الإصلاح في الأردن معركة كبرى

السبت 10 آذار 2012

(تصوير ريم مناع - (آذار ٢٠١١

بقلم سفيان عبيدات*

ثمة عوامل تاريخية وهيكلية للضعف والفساد السياسي الذي ينخر جسد الدولة الأردنية ويهدده بالتآكل، وإذا ما استمر الحكم في الأردن بتجاهل هذه العوامل وبإدارة الدولة بذات الشروط الحالية، وإذا ما استمر الحراك الإصلاحي بإدارة معاركه بالحجم والشكل الذي يديره بها، وفي ظل استمرار الظروف الإقليمية بالتطور بالشكل الذي هي عليه الآن، فسوف تكون الدولة معرضة للانهيار دونما أي تدخل خارجي، لا بل إن الدعم الخارجي لن يجديها نفعاً إذا أصر أطراف المعادلة الأردنية على تجاهل العوامل التاريخية والأسس التي قامت عليها الدولة والمجتمع الأردنيين ومقاومة حتمية محيطها الإقليمي والسياق والظروف التاريخية التي قامت فيها وبسببها.

عندما أقامت وزارة المستعمرات البريطانية الدولة الأردنية في حدودها ومواردها الحالية، لم يكن ذلك إلا ضمن مشروع لتقسيم سوريا الكبرى وإقامة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، وعندما قام الكيان الصهيوني عام 1948، ضُمَ ما تبقى من فلسطين إلى الأردن وقامت وحدة سياسية بين الشعب العربي على ضفتي نهر الأردن أنتجت جسداً واحداً نفخت فيه الروح مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين وما يستلزمه هذا المشروع من ظروف وشروط مناسبة له في محيطها.

وعلى إثر هذه الوحدة صدر الدستور الأردني عام 1952 منشئاً نظاماً نيابياً ملكياً لدولة الوحدة التي تولى عرشها الملك حســـين بن طــــلال. حكم الملك حسين الدولة بأسلوب أبوي لسبعة وأربعين عاماً مستأثراً بالسلطة إلى درجة قوضت النظام النيابي للحكم، وكان هو المرجع الأخير الذي لا رقابة عليه أو نقد، وقد أدى هذا على مدى السنوات إلى الإخلال بتوازن السلطات وإضعاف رقابة السلطتين القضائية والتشريعية على السلطة التنفيذية، إلا إن ما كان يتمتــع به الملك من كاريزما شخصية وعبقرية في إدارة فوضى الحكم الفردي وغياب المؤسسات، وبتعيينه لحكومات فوض لها هامشاً من الإدارة ووجود مجالس نواب شكلية، جعل البلاد تسير بقوة من الدفع الذاتي وتحقيق نمو، ولا أقول تنمية، على كثير من الأصعدة.

وخلال تلك الحقبة، تشكلت مجموعة من المفاصل التاريخية التي لا زالت تلقي بظلالها على الصورة الأردنية وتحكم مسارها إلى اليوم. ففي عام 1967 وضعت إسرائيل قواعد جديدة للعبة في المنطقة باحتلالها للضفة الغربية، وفي عام 1970 كانت أحداث أيلول البغيضة، وفي عام 1974 كان قرار قمة الرباط الشهير، وفي عام 1988 أخذ الملك حسين قراره الفردي الذي سمي بقرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، وتبع ذلك اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة اللتين كانتا بمثابة كارثتين على الأردن والقضية الفلسطينية على حد سواء. وبالرغم من كل ما تمخض عن تلك المفاصل التاريخية وما أنتجته من توتر على الساحة الأردنية، إلا أن هذا كله لم ينل من النسيج الاجتماعي الأردني كما نالت منه اتفاقيتا أوسلو ووادي عربة؛ فعندما قامت منظمة التحرير الفلسطينية بإبرام اتفاق أوسلو وهرولت وراءها الحكومة الأردنية لاهثة ووقعت اتفاقية وادي عربة، تركت هاتان الاتفاقيتان أخطر قضايا الشأن الفلسطيني على الإطلاق دون حل، وهي قضية اللاجئين، وبذلك بدا أن الممثل الشرعي والوحيد قد ترك الفلسطينيين الأردنيين إلى شأنهم، وأن صاحب قرار فك الارتباط نسي من فك ارتباطهم عنه، ووقف كل من الأردن والمنظمة على ضفته مُدْبراً ظهره للآخر.

وفي خدمة وادي عربة، اشترعت الحكومة قانوناً للانتخاب عماده نظام للدوائر الانتخابية يقوم على أساس الصوت الواحد لكل ناخب، ولا شك في أن هذا القانون، الذي كان السفير الأمريكي في عمان أهم داعميه العلنيين، قد خلف آثاراً كارثية على النسيج الاجتماعي الأردني وأدى إلى انحدار في مستوى التمثيل السياسي إلى حد خلف حالة من الانقسام الاجتماعي العمودي والانقسام السياسي الحاد في بلد تفتقر أصلاً إلى المؤسسات.

في عام 1999 رحل الملك حسين ورحلت معه الكاريزما وعبقرية الإدارة ومكثت الفوضى. ولما لم يدرك العهد الجديد العبقرية في إدارة الفوضى التي كان يديرها الملك الراحل، فقد اتخذ العهد منهجاً جديداً في الحكم ظل فيه الملك مستأثراً بالسلطة، وأخذ يشكل الحكومة تلو الأخرى مجدولاً المشاكل والمآزق الناتجة عن قرارات الحكم، وأُتي إلى الحكم بمجموعة من قصار القامة الذين ما كان ليكون لهم أدوار قيادية في الدولة لولا استعداداتهم التي تناسبت وبرنامج العهد، بالإضافة إلى خريجي أحزاب وتنظيمات لم يتربوا على منهج للوصول إلى السلطة سوى الاستيلاء عليها بدلاً من تداولها بالوسائل الديمقراطية، وأخطر هؤلاء بعض من أولاهم العهد رئاسة حكومات وقيادات أمنية ووزارات رئيسية كالداخلية والعدل واستخدمهم مخالب للقمع والإفساد وتزوير الانتخابات، وفي خضم ذلك أحاطت بالملك فئة من رجال الأعمال الذين لم تشكل أسس إدارة الدولة واقتصادها ورفاه شعبها جزءاً من ثقافتهم ولم يروا في الحكم إلا ميداناً للسباق المحموم لجمع الثروة، وشهد العهد فساداً مالياً حكومياً لم تسلم منه الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأصبح تزوير الانتخابات عادةً عجز الحكم عن التخلص منها، وكانت أكبر صدمة للأردنيين هي نقل ملكية مساحاتٍ شاسعةٍ من أراضي الدولة للملك شخصياً نفذها ساسة ابتلعوا كبرياءهم وموظفين اعتادوا على العمل بمعزل عن أي كرامة وظيفيـــــة، وقد أدى هذا كله إلى انهيار قيَمي واقتصادي وسياسي واجتماعي سريع عززته تغـــيرات إقليمية وعالمية متسارعة توجتها الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم يتحمل وعي الشعب الأردني هذه التناقضات والتغـــيرات السريعة مما أدى إلى إغراق المجتمع في حالة من الانقسام والتشتت وفقدان الثقة بالحكم وببعضه البعض. وبالرغم من كل ذلك، وفي ظل غياب مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية بسبب الحصانة التي يمنحها الدستور للمــــلك، فقد ظل المسؤول عن كل ما تم خلال العهد شبح لا يعرف من هو وكيف قام بكل ما قام به خلال تلك الفترة.

وعلى هذه الخلفية، وصل الربيع العربي إلى الأردن ليجد معظم الأردنيين مجمعين على ضرورة الإصلاح وغير متفقين على مفهومه، فبالرغم من رفع الحراك الإصلاحي لشعار إصلاح النظام ومطالبته بدولة القانون وبالتحرر من أدوات التسلط الأمني وإنهاء عهد تزوير الانتخابات وإعادة أراضي الدولة إلى الخزينة، إلا أنه بدا من الواضح أن الحراك يفتقر إلى النضج السياسي وأنه يعوزه مزيد من الوعي والاستيعاب الأعمق للمبادئ الإنسانية التي تجسد جوهر التغيير الحقيقي الذي يتطلبه الإصلاح السياسي الديمقراطي، ولم تتمكن أي جهة في الأردن إلى الآن من تبين الواقع بكل أبعاده المحلية والإقليمية والدولية وبلورة رؤية لا يشوبها الخجل من أي قضية حساسة أو خلافية ووضع برنامج للإصلاح محدد الأهداف وقابل للتحقيق ضمن إطار زمني واقعي.

فالحراك الذي يطالب بإصلاح النظام السياسي ومحاربة الفساد، لا يبدو أنه يدرك تماماً أن هذا لا يتم إلا بإعادة انتاجٍ للدولة الأردنية كدولة ديمقراطية قائمة على أساس المواطنة، وأن هذا لن يتم إلا بالعمل على تكوين مجتمع قادر على ابتلاع العناصر السابقة عليه وهضمها وإخراجها كمجتمع مدني. لكن الحقيقة أن هذه الفكرة تبقى غير قابلة للتطبيق إلا إذا آمنت بها عُصْبة عريضة تدرك حقيقة المشروع الصهيوني وتؤمن بمدى مخاطر تركه يفتك بالنسيج العربي المحيط به. والمشروع الصهيوني ببساطة هو كل ما يُسَهل على الكيان الصهيوني ترسيخ دولته الدينية العنصرية على كل أرض فلسطين ودفع أي ثمن للحفاظ على هذا المشروع سواءً في فلسطين ومحيطها أو في أي مكان في العالم، ولذلك فإن من الأهمية إدراك أن المشروع الصهيوني هو السبب الذي يحول دون قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وهو ذات السبب المانع من قيام دولة ديمقراطية علمانية على كل أرض فلسطين، وهو ذات السبب الذي يحول دون قيام هذه الدولة على الأرض الأردنية أو السورية أو المصرية، ولذا، فإن إعادة انتاج فكرٍ وطني ديمقراطي مناقض للمشروع الصهيوني ويسعى للتخلص منه هو المخرج الوحيد أمام كل الطوق العربي وعلى رأسه الأردن.

إن المشروع الصهيوني هو الذي أدى إلى ظهور الهوية الفلسطينية، ولولا هذا المشروع لما أُنتجت الهوية الأردنية، وهذا لا يعيب الهويتين ولا أصحابهما، إلا إنّ تجاهل هذه الحقيقة يجعل من تلك الهويات هويات قاتلة متقاتلة لا تنفع أصحابها ولا تجلب لهم إلا الخراب، وهذا الخراب يبدو حالاًّ إذا ما استمر الأردنيون بخوض معارك داخلية بالغة في الصغر نجح الحكم بدفعهم إليها وبلفت أنظارهم عن معركتهم الكبرى وعن الأسباب الحقيقية لما يعانوه من فساد، وهذه المعارك سوف تستنزف قواهم وتجعلهم عاجزين عن الحركة عندما تأتي ساعة الحسم التي يبدو أنها قد اقتربت باقترابها على الجبهة السورية والتي ستعيد ترتيب الأوراق في المنطقة وعلى رأسها الورقة الفلسطينية، أياً كان الطرف الذي ستحسم لصالحه.

إن المعارك التي يخوضها البعض لتحديد من ظل أردنياً صباح اليوم الذي تلا قرار فك الارتباط ومن استيقظ ذاك الصباح ليجد نفسه فاقداً الجنسية، ولتحديد من يجوز له أن يبقى شرق النهر ومن عليه أن يرحل غربه، والمعارك التي يقاتلها البعض الآخر من أجل تأمين مقاعد نيابية تمثل مصالح مجاميع سكانية منفصلة ذات هوية متفردة بدلاً من السعي إلى تمثيل يعزز النسيج الاجتماعي الأردني بدلاً من أن يمزقه، هي كلها معارك صغيرة لا يهابها العدو إلا بقدر ما لأصحابها من هيبة. أما معركة الوطن البديل التي يعتقد البعض أنها معركتهم الكبرى، فإن لم يختر هؤلاء المشروع الصهيوني كعدوهم الوحيد فيها، فإنها تصبح معركة داخلية صغيرة يكون أطرافها قد أقروا حكماً بأحقية الكيان الغاصب في فلسطين، وقرروا الانتقال إلى شرقها لخوض معاركهم الصغيرة هناك.

*محام عربي من الأردن

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية