خطابات الإسلاميين

السبت 03 كانون الأول 2011

ما زلت أرغم نفسي على متابعة الشأن الأردني، خاصة بعد أشهر في الغربة، رأيت فيها أن مفهوم الوطن والوطنية تأكّدا عندي وترسّخا، وإن كانت المصاديق من ناحية التحرك والتفاعل تختلف من شخص إلى آخر. مثل معظم الشباب الذين على شاكلتي، رأيت نفسي مهتمّا بموضوع الإسلاميين في الأردن، وتابعت على عرمرم نقاش علامة المربع الذي نظمه حبر الإثنين الماضي بين مجموعة من الشباب والدكتورين محمد أبو رمان وارحيل الغرايبة في مكان في جبل اللويبدة.

من الأشياء التي لفتت انتباهي هو أن الحضور، كالعادة، يخلو ممّن يحلو لنا أن نسميهم بالإسلاميّين، بصرف النظر عن دقة هذا التعبير، وهذا من الأمور المحزنة التي تحمل إشارات عديدة، مع أنّي سألت صديقي الذي كان حاضرًا في مكان إن كان شباب الحركة الإسلامية موجودين أو لا، وأجاب بنعم. غير أنّ وجودهم كما بدا لي كان سلبيّا، ولم أسمع منهم شيئًا يدلّ على وجودهم. وفي هذا دلالة على غياب هذا الطيف (الواسع) عن المساحات العامة في المجتمع، وأنهم ليسوا جزءًا فاعلًا في تشكيل الثقافة العامة القائمة على الحوار والكلمة، والهادفة إلى تعميق روح التواصل والتفاهم بين أطياف المجتمع الأردني. وهذه ليست المرة الأولى التي يمكن لشخص مثلي أن يتوصل إلى هذه الملاحظة، بل هذا أمر يتكرر كثيرًا، وكل من يراقب هذه الظاهرة يعلم يقينًا أن هناك عزلة يفرضها الإسلامي على نفسه (ويساهم الآخرون في فرضها بشكل أو بآخر) تمنعه من التواصل مع شريحة كبيرة من الناس الذين يختلفون معه في وجهات النظر الأساسية.

وقد يقول قائل معترضًا، لم لا نسأل عن السبب الذي يمنع بعض فئات المجتمع من التواجد في مساحات الإسلاميين؟ أليست المسؤولية مشتركة؟ ألا يجب أن تكون القدرة على التواصل والتفاهم مشتركة بين جميع الأطراف في المجتمع؟ فأقول إنّ هذا صحيح، غيرَ أنَّ المساحات التي يشغل بها الإسلاميون أنفسهم تنضوي على إقصائية غير مقصودة على الأغلب، فالكثير من الأنشطة التي نراها تكون صبغتها إسلامية واضحة، وهذا يمنع البعض من المشاركة لأنه يشعر بعدم حيادية السياق، وأنها موجهة لجماعة دون سواها. فالخطاب الموجود موجّه لفئة بعينها ولا يمكن أن ندّعي أنه يشمل الجميعَ تحت كنفه. ولهذا كنت وما زلت أرى زلّة في الخطاب وبعدا عن الحكمة اللغوية، لأن المفردات الإسلاميّة هي هي لم تتطور، وما زالت مرتبطة بمرحلة تاريخية معيّنة، والذي يدقّق في هذه المفردات يراها حكميّةً ووعظيّة واستعلائية أحيانًا، وهذا أمر لا يروقني أنا مثلًا، ولا يروق كثيرًا من الشباب في المجتمع الأردنيّ. كما أن انعدام الحساسية اللغوية عند كثير من الإسلاميين (مثل استخدام الدكتور ارحيّل كلمة “الكافر” لوصف غير المسلم في المجتمع الأردني) تسبّب تعميق الفجوة في مجتمعنا الأردنيّ، وابتعادًا عن وجود ثقافة الإسلام الحقيقية في أجزاء أساسية في الحياة العامة. ولهذا ارتبط الإسلام في ذهن بعض الناس بكل ما هو جامدٌ وبكل ما يبعد عن الحركة والحرية والاعتدال. وصار الخطاب الإسلاميّ صنعة فئة بعينها من المجتمع وحسب.

ولكن، أليس هذا شيء متوقع؟ أليس هذا هو الشرخ الحاصل والذي يمكن أن يتّسع في مجتمع كالمجتمع الأردني إن استمر خطاب الإسلاميين الذي ينظر إلى الآخر على أنه لا يأبه للإسلام ولا يهتم له، وهو بهذا غير جدير بأن يستلم منصبًا عامّا (لبعده عن الدين فقط؟)، أليست هذه هي النظرة المنتشرة بين الناس في المجتمع (وإن قال غرايبة إنّ هذا ليس مقبولًا)؟ أليس الوعاظ والشيوخ في بلدي مسؤولين عن زرع عقيدة بين الناس مفادها أن الحكم لله فقط، بمعنى أنه لا يجوز انتخاب غير المتدينين أو غير المسلمين. ألا نتفق جميعنا على أنّ هذا يخالف أسس المواطنة التي نردّدها على ألسنتنا صباح مساء؟ أليس المواطن المسيحي الأكثر كفاءة أحق بالمنصب والوزارة (ولو كلها) إن كان المواطن المسلم غير جدير بهذا المنصب؟ وهل يمكن أن نقول إن الخطاب الدينيّ المنتشر في حاراتنا وزقاقنا يعترف بهذه الثقافة وينشرها بين الناس؟ الجواب لا.

إن انتشار الخطاب الديني بهذه الصورة المحزنة ليس مسؤولية العاملين في المجال الإسلامي فقط من إخوان أو سلفية رسميّة أو سلفية جهادية أو تحرير أو رجال دعوة،  وإنما هي أخطاء مؤسسات الدولة أيضًا، وعلى رأسها وزارة الأوقاف، والتربية والتعليم، والتي هي شريكة في استغلال الدين أيضًا للّعب على عواطف الناس واستجداء أصواتهم في المواسم. وكما قال أبو رمّان في مناقشات علامات المربع، إن الدولة كانت تمنع خطباء الإخوان وترسل بدلًا منهم خطباء يروجون خطابًا إرهابيّا متخلفًا، يترفع كثير من شيوخ الإخوان عن الإسفاف إلى مستواه. وهو محق بذلك بلا شك، والذي يتردد على مساجد عمّان، يرى الكم الهائل من المصائب على منبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يدلُّ على غياب الدولة عن أحد أهم المنابر للتأثير في الناس وثقافتهم. ولا عجب من ذلك إن كان بعض من ينصّبون أنفسهم للخطابة والإمامة هم أنفسهم من المنتفعين بشكل أو بآخر من التمسك بهذا الخطاب الإقصائي التكفيري الذي قد يجرّ مجتمعنا إلى فتنة كبيرة، باطنة إن لم تكن ظاهرة.

الصورة أعلاه: د.ارحيل غرايبة (يسار) ود. محمد أبو رمان (يمين) في نقاشات علامة المربع.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية