معالي الدكتور، الطبيب الاقتصادي

الثلاثاء 10 حزيران 2014

اللغة والتشبيه، الطبابة الاقتصادية و”الامبريالية المهنية”

في كتابه “اللغة السياسية: كلمات تنجح و سياسات تفشل“، يتحدث الكاتب الأمريكي موري ايديلمان عن أثر اللغة السياسية كأداة من أدوات السيطرة السياسية. يفسر ايدلمان نجاح سيطرة النخب على الناس بتركيبة الخطاب السياسي الذي يجعل من المظلوم تابعاً لمنظومة ظلمه، بعملية ذهنية، تتحول فيها اللغة الى تركيبة فكرية معقدة. إحدى أدوات تلك السيطرة اللغوية هي اللغة المهنية ولغة الخبراء التي من شأنها تعزيز  وشرعنة سياسة ما. يرى ايدلمان أن السياسيين عادة ما يقومون بتسييس وتعميم أمور خاصة لغاياتهم، وبتخصيص أمور عامة أيضا لغاياتهم. فمثلا تعمم وتسيس الأخلاق أو السلوك الخاص، بينما يخصص الاقتصاد ويحول الى شأن للمختصين، وتقدّم موازنة الدولة كموضوع متخصص يجب الحد من دائرة المؤثرين به، تحت ذريعة الحاجة لخبراء اقتصاديين أو أمنيين أو مهنيين الخ.

التشبيه..

رئيس الوزراء الأردني عبدلله النسور في مؤتمر صندوق النقد الدولي “بناء المستقبل” الذي عقد في عمّان الشهر الماضي، وغيرها من المناسبات، شبّه صندوق النقد الدولي بالطبيب. في مقابلة له مع برنامج نبض البلد يغرق النسور بالتشبيه، فبالنسبة له صندوق النقد الدولي “ليس جلاد” بل هو “خبير، طبيب، طبيب في المالية العامة للدولة…يفحص وضعك المالي..يكتب لك روشيته..الحرارة هيك..الضغط هيك..بنصحك تأخذ الاجراءات التالية..امتنع عن كذا (الخ..)”.

ليس النسور وحده من يوظف ذلك التشبيه، بل ينضم إليه مجموعة من الكتاب و”الخبراء” والمعلقين وحتى موظفي الصندوق نفسه. فهد الفانك، الكاتب الاقتصادي المعروف، يكتب في مقالة له بعنوان “صندوق النقد جزار ام جلاد؟”: “لا يستطيع منصف أن يجادل صندوق النقد الدولي في صحة الوصفة التي يقدمها للحكومات المأزومة، فالاتجاهات والتفاصيل صحيحة علمياً”. يشبه الفانك الصندوق بطبيب الاسنان، الذي يستخدم أدوات مؤلمة ويكرهه الجميع. خبراء صندوق النقد الدولي نفسه يحلوا لهم وصف أنفسهم “بالاطباء”، فالمدير الإقليمي للصندوق في قارة آسيا يريد من الصندوق ان يتحول الى “طبيب عائلة” (دائم) لا “طبيب طوارئ” يأتي فقط في الأزمات. جمانة غنيمات في مقالتها بعنوان “الشاكي و الطبيب”، أيضا تأخذ عن الرئيس الذي يصف نفسه هو (هذه المرة)، “بالطبيب” و سياساته الاقتصادية ب”العلاج مر”.

الإمبريالية المهنية

يتحدث ايدلمان في نفس كتابه عن الإمبريالية المهنية، فالإمبريالية بمعناها العام، هي التسلط الغير المتساوي. ايدلمان يرى أن “للمهنيين” تسلط وسيطرة غير متساوية في المجتمع، ويعطي مثالا بأن مهندسي الطرق عادة ما يرسمون مسارات للطرق تقع داخل الأحياء الفقيرة، يفترض العامة أن المسار رسم بناءً على منهجية علمية تعلمها المهندسون في دراستهم التقنية، بينما قد يكون القرار في واقع الأمر سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، وغير “علمي”.

التشبيه بالطبابة يحقق هدفاً سياسياً، إذ يضفي سلطة ما وشرعية ما “للطبيب” في مواجهة “المريض”

إذا أخذنا من مثال الامبريالية المهنية، إمبريالية “الأطباء/الخبراء الاقتصاديين” فإننا سنجد بأن أغلب “توصيات” الصندوق على خلاف ما يظن الكثيرون، هي مواقف وقرارات وسياسات، لا وصفات وعلاجات وحتميات علمية. بالتالي فإن التشبيه بالطبابة يحقق هدفاً سياسياً، إذ يضفي سلطة ما وشرعية ما “للطبيب” في مواجهة “المريض” ويحول الاجتهادات إلى “روتشيتات” لا بد منها للشفاء من “المرض”، بينما هي في أحسن أحوالها، اجتهادات قد تؤدي إلى نتائج غير “صحية” وخاطئة، وفي اسوأها سلوك سياسي استعماري، للمحافظة على أفضلية اقتصادية للمسيطرين على قرار الصندوق. يتواطأ معهم في تلك الأخطاء “خبراء” و”أكاديميون” وسياسيون من أجل مصلحة شخصية مهنية ومادية وبدافع المحافظة على سلطة مجتمعية. يطلق عليهم ايدلمان “المهن الداعمة” أي المساعدة للسيطرة السياسية على الناس.

يتحدث الاقتصادي الكوري المحاضر في جامعة كامبردج، ها جون تشانج في مقدمة له حول كتابه الجديد “الاقتصاد: دليل المستخدم” عن الحاجة الملحة لإزالة الغموض الذي يحوم حول الاقتصاد. يقول تشانج أن هنالك انطباع سائد بأن الاقتصاد شأن تقني، “بعيد عن قدرة غير المختصين على الفهم”، وذلك الخوف من فهم ومناقشة الاقتصاد ينعكس على قدرة المواطنين على التاُثير في صناعة القرار الاقتصادي. يضيف تشانج بأن الكثير من الاقتصاديين يرون أن الاقتصاد مجال علمي مثله مثل الفيزياء والكيمياء (لاحظ قول الفانك: “صحيحة علميا”)، بينما أصل الاقتصاد ليس في مجال العلوم الفيزيائية بل في مجال الفلسفة الأخلاقية، وإن كانت أدوات “قياس” النظريات الاقتصادية قد تطورت رياضياً وإحصائياً. يغفل هؤلاء الاقتصاديون أيضاً أن الكيمياء و الفيزياء تدرس خلايا وذرة، بينما الاقتصاد يدرس البشر ويؤثر عليهم وعلى قوتهم وحياتهم.

مثال على الاقتصاديين الذين يصفهم تشانج وزير المالية الأردني أمية طوقان. ففي حوار له مع لاجارد في مؤتمر بناء المستقبل، يقول طوقان أن الحد الأدنى للأجور ليس “ناجعاً اقتصادياً” وبأننا نحاول في الأردن تطبيق “الاقتصاد الناجع”. يسترسل الطوقان في الحديث وكأنه اكاديمي مؤدلج، لا وزيراً لمالية دولة نامية، “إذا تحدثنا عن مفهوم الاقتصاد الجيد، وحسب فترة ريغان وثاتشر، فإن حجم الحكومة يجب ان يكون محدوداً، بينما نجد في الواقع ان الأمر مختلف”. ينتهي الطوقان من حواره ليتقدم إليه أحد الحضور، ويصافحه بحرارة، مادحا اياه بأنه، “اقتصادي بحت” (طبيب/عالم؟).

دوجما الطبيب المتجرد

ايدلمان يستند بتفسير ظاهرة الاقتصاديين والخبراء إلى نظرية نيتشه، بأنهم يؤمنون عقائديا ب”طهارة إدراكهم” العلمي، ويغفلون أثر تخوفاتهم وهواجسهم ومصالحهم وآمالهم الشخصية على ملاحظاتهم “العلمية” وصفاتهم الاقتصادية. هنا فعلا يكمن تبرير التشبيه بالطبابة، التي يوظفها الكثير من الساسة، ليضعوا حدوداً للنقاش العام الاقتصادي ويبقوه تحت هيمنة “الخبراء” المؤدلجين ومجموعة محدودة من صناع القرار.

النسور مارس جدلية جميلة مع نفسه، وصفها صبري الربيحات وفهد الفانك بطرح تساؤل: متى يناقش المريض طبيبه؟ السؤال فعلا، متى تصف حكومة دولة “مريضة” “خبراءها” بالأطباء ثم تصرح بأنها غير مرغمة ولكن ذاهبة من تلقاء نفسها؟ ومتى تطبق الحكومة قرارت سياسية تصفها بالطبية والعلاجية، ثم تنتقدها لمحاسبيتها وقصورها الاجتماعي و الاقتصادي؟ الا إذا كان الطبيب ليس طبيبا ولا المريض مريضا والتشبيه خاطئا من اساسه، هدفه تبرير “حتمية” علاج مؤلم مفروض ذاتيا.

إشراك الناس يبدأ أولا بخطاب جديد، يفكك الامبريالية المهنية التي تمارسها الحكومة باملاءات من “خبرائها”، ثم بتعرية المصالح التي يخدمها هذا الخطاب

إشراك الناس يبدأ أولا بخطاب جديد، يفكك الامبريالية المهنية التي تمارسها الحكومة باملاءات من “خبرائها”، ثم بتعرية المصالح التي يخدمها هذا الخطاب. فهل يقفز “خبير” من صندوق النقد الدولي إلى العمل العام وبالعكس، بدون الخلط بين “ملاحظاته العلمية” ومصالحه الشخصية و مصالح الدول المؤثرة على صناعة القرار في الصندوق؟ إلا اذا كان أيضا ضحية اللغة التي تخدمه والتي يساعد بانتاجها، شأنه شأن السياسيين ووزراء المالية ومسؤولي البنوك المركزية العرب. العالم بأكمله يراجع الايديولوجيا الفكرية التي سيطرت عليه والتي كان أحد أهم ادواتها صندوق النقد الدولي. فهل ننتظر تلك المراجعة بتغيير “العلماء” المسيطرين في مؤسسات برتن وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، ام نجتهد حسب احتياجاتنا ولو سبقنا نحن الصندوق؟

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية