الحياة بما هي ملهمة للسياسة والأسواق والمجتمعات

الأربعاء 23 نيسان 2014

بقلم إبراهيم غرايبة

(نشر هذا المقال أولًا على موقع تقدم. الصورة أعلاه بعدسة محمد القيسي).

ثمة مكونات اجتماعية وثقافية في حياتنا تبدو بحاجة إلى رد اعتبار وملاحظة أثرها في التقدم؛ الثقافة بما هي حياة نعيشها كل يوم، أسلوب الحياة، والعادات والتقاليد والقيم والأعراف، مثل الثقافة والفن والموسيقى والرواية والسينما والمسرح والدراما، والانتماء والمشاركة، والصداقة والعلاقات الاجتماعية، والرياضة، والخدمة العامة. إنها تبدو عند تقييمها أنها ليست مهمة، نضحي بها أولا وغالبا لأجل مكاسب أخرى، سواء على مستوى الأفراد في زحمة الوقت والمشاغل، او المجتمعات والدول، ولكنها تبدو أكثر ضرورة وأولوية تبدو- عندما نفتقدها- أجمل ما في الحياة.

في النظر إليها مستقلة، يمكن الاستغناء عنها ولكن في محاولة الحياة بدونها تبدو الحياة خاوية كالحة مملة عديمة الجدوى والمعنى. الذين يسافرون على سبيل المثال إلى الخارج تثقل عليهم ذكريات الأماكن والاصدقاء والمقاهي والرياضة والنشرة الجوية، كما الندوات والمحاضرات واللقاءات. إنها ليست مجرد إضافة ترفية الى الاحتياجات الأساسية في الحياة، ولكنها شرط أساسي وضروري لتحسين الحياة وحماية الموارد وتجديدها، ليس تحسينها فقط جماليا، ولكن أيضا ماديا.

يبدو أسلوب الحياة ليس ملهما للحراك والجماهير اليوم، وتحل مكانه السعادة بعد الموت

في أسلوب الطهو والطعام ثمة منظومة هائلة للإبداع والأسواق لم تكن لتوجد على هذا النحو، لولا تقدير الحياة ومحاولة التخلص من فجاجتها، الشعير على سبيل المثال يمكن التهامه او خبزه وتوفير الحد الأساسي للبقاء، ولكن يمكن إنشاء منظومة واسعة وهائلة حوله من الحياة والموارد والأطعمة والأسواق وأساليب الحياة والإبداع فيها!

يبدو أسلوب الحياة ليس ملهما للحراك والجماهير اليوم، وتحل مكانه السعادة بعد الموت؛ ولكن في تاريخنا وحضارتنا يمكن ببساطة ملاحظة العلاقة بين أغاني التراث لدينا وما كان عليه أسلوب الحياة والعمل والقيم والثقافة المنظمة للحياة، ويمكن أيضا ملاحظة ضياع البوصلة في الإصلاح كما السياسة والحياة بعامة فيما نملكه اليوم من فنون وعمارة وموسيقى. “الدبكة” على سبيل المثال والمنتشرة في جميع بلاد الشام وهي كلمة سريانية معناها القفز، مستمدة من عمليات استخلاص الحبوب من السنابل. محاولة لتحويل هذا العمل القاسي الممل إلى مصدر للفرح والإلهام والحب والمشاركة والقدرة على مواصلة العمل!

وفي استماعنا الى أغنيات فيروز يمكن أن نفهم الوجود الممتد من أورفا إلى العريش، ومن الفرات إلى البحر المتوسط، العشق والأسطورة، والجبال والأنهار والمدن والقرى والبحار والصحارى والأماكن، والبيوت والأبواب والنوافذ والفصول والأيام والشهور والطفولة والألعاب والشتاء والثلج والصيف، والدفء والبرد، والعمل والإرادة والعزيمة والسفر، والزهور والأعشاب والشجر والطيور، والطعام واللباس، والذكريات العميقة التي تشكلنا والتي هي نحن. الغياب والوداع واللقاء والحزن والفرح، والمقاهي والأسواق والطرق، والشمس والقمر والنجوم، والفقر والغنى، والنضال والفداء. ولكن لسوء الحظ لا يكاد يكون لدينا سوى فيروز!

نحتاج اليوم أن نجد حياتنا الجديدة والمتغيرة التي نعيشها بكل جوانبها في العمارة والدراما والشعر والموسيقى، وهذا أهم ما يلهمنا الإصلاح، فنحن من خلال هذه الفنون نعبر حسيا عما نملكه من مشاعر وتخيلات، وكيف نعي وجودنا، وما تمثل فينا وحلّ من قيم وأفكار، كيف نحب أن تكون حياتنا، وما نحب أن نكون عليه.

هناك بالتأكيد تحول كبير في وعي الذات والنظر إلى حياتنا كما نحب أن تكون عليه، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الربيع العربي القائم، فالحراك الإصلاحي القائم هو أساساً فعل ثقافي يعبر عن التطلع إلى الحرية والعدالة والاستعداد للتضحية لأجلهما، والمجتمعات العربية اليوم تنتفض في الحقيقة على نفسها، وتراجع أولوياتها واحتياجاتها، وتعيد النظر في كل شيء، أليست المعارضات والأحزاب والحركات السياسية التقليدية تتعرض هي أيضاً مثل الحكومات العربية للمراجعة والنقد القاسي، وتواجه أيضاً احتمالات الانحسار؟ إننا نشهد في الواقع ثورة ثقافية تغير من النخب والقيادات والأفكار والقيم والأولويات، فلم تعد على سبيل المثال القضايا السياسية الكبرى التي كانت عنواناً للعمل السياسي الحكومي والمعارض موضع اهتمام الشارع العربي.

الثقافة ببساطة هي الحلقة الأساسية في تشكل الناس وتجمعهم حول مواردهم وأنظمتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية

ومن المؤكد أن التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى الجارية اليوم وما صحبها من أحداث وثورات تكاد تشمل الوطن العربي، تعبر عن ثقافة جديدة تتشكل في المجتمع، فالثقافة أولاً وأخيراً هي وعي الذات، وما نشهده اليوم من احداث في الوطن العربي تعبر عن رؤية الناس لما يحبون ان يكونوا عليه، وملاحظتهم للفرق بين واقعهم وما يرغبون في تحقيقه، ولكنها ثقافة مفاجئة للفعل الثقافي المشهود في الأوعية الرسمية والمتاحة للثقافة، وهذا الغياب للفعل الثقافي عن ملامسة التحولات والأفكار الجديدة للناس يعبر بالتأكيد عن فجوة كبيرة، وربما يفسر سبب غياب التفاعل بين الناس والمجتمعات والعمل الثقافي بعامة.

فالثقافة ببساطة هي الحلقة الأساسية في تشكل الناس وتجمعهم حول مواردهم وأنظمتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولذلك يجب النظر إلى الثقافة القائمة اليوم وتقييمها بمقدار تعبيرها عن هذا التشكل، وبمقدار مساهمتها في تحسين حياة الناس وتنظيم مواردهم واحتياجاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وأظن أن هذا هو جوهر العمل السياسي أو يفترض أن يكون السياسة الجديدة التي من دون الاهتمام بها لن يكون إصلاح ولا ديمقراطية، وهذا التقسيم المفتعل وبعجرفة متبادلة بين السياسي والثقافي لا ينسجم مع المفهوم العلمي والحقيقي للسياسة والثقافة، ويعطي للسياسة والثقافة وأسلوب الحياة مفهوماً دارجاً في الإعلام والمجتمعات بعيداً كل البعد عن الدور المفترض للسياسة والثقافة بالمعنى المستمد من تحسين الحياة والولاية على الموارد وتمكين المجتمعات وتطويرها والتنمية والإصلاح بعامة، أو التشكل الملائم وإقامة العلاقات الصحيحة بين الموارد والأعمال والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كان ذلك يصنف على أنه ابتعاد عن السياسة والنضال والسمو! ولكن المفهوم الحقيقي للسياسة مستمد من مستوى الحياة ونوعيتها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية