من المناضلين إلى الموظفّين: ظاهرة النشاط المحترف

الثلاثاء 10 أيلول 2013

هذا المقال هو جزء من كتاب: “لعنة الألفيّة: لماذا يفشل النشاط التغييري”. يمكن قراءة السلسلة الكاملة على هذا الرابط: لعنة الألفية

بقلم طوني صغبيني (مدونة نينار)

الإعلام الاجتماعي الجديد ساهم جزئياً بظهور نوع جديد من النضال وغيّر بنية العديد من المنظّمات وحتى كيفية رؤيتنا للنشاط السياسي. هذا النوع الجديد من النضال يمكن أن نطلق عليه اسم “النضال المحترف”، لأنه يتم عبر أناس يعرّفون عن هويتهم أنهم “ناشطون”، ويعملون عادة في شبكات  رخوة وواسعة من الأفراد، متركّزة غالباً في صفوف الطبقة الوسطى المدينيّة، ويقومون بنشاطات منخفضة المخاطر، وغير فعّالة بشكل عام.

النشاط السياسي بالنسبة للناشطين المحترفين ليس مجرّد فعل، بل هو هويتهم الشخصية، هو دور اجتماعي، وأحياناً هو مهنة تدرّ المال. بالنسبة للناشطين، النضال السياسي هو اختصاص عام أو ميزة فئة محدودة من الناس، وليس مرتبطاً بالضرورة بقناعاتهم الأيدولوجية أو بقضيّة معيّنة يؤمنون ويلتزمون بها.

في مقال طويل بعنوان “فلنتخلّى عن النشاط: نقد لعقليّة الناشطين في حركة النشاط المباشر”، الذي تُرجم للعديد من اللغات إثر نشره، يحلّل الناشط الاميركي الماركسي أندرو أكس مشهد النشاط السياسي المعاصر بعمق. يكتب أندرو:

“الناشط يتماهى مع ما يفعله ويعتقد أن هذا دوره في الحياة، كأنه عمل أو مهنة. الناشط هو متخصّص أو خبير في التغيير الاجتماعي”[1].

يتابع:

“الناشط، بما أنه يعتبر نفسه خبير في التغيير الاجتماعي، يجزم بأن الآخرين لا يفعلون شيئاً لتغيير حياتهم وبالتالي يشعر أنه هنالك واجب أو مسؤولية للقيام بالنشاط نيابة عنهم. الناشطون يعتقدون أنهم يعوّضون عن نقص النشاط لدى الآخرين. تعريف أنفسنا كناشطين يعني أننا نقول أن نشاطاتنا هي التي ستجلب التغيير السياسي، وبالتالي نتجاهل نشاط الآلاف والآلاف من الآخرين الذي لا يعرّفون عن أنفسهم بذلك (…). النشاط مبني على سوء الفهم هذا الذي يقول أن الناشطون وحدهم هم من يحقّقون التغيير الاجتماعي”[2].

الناشطون المحترفون لا يمتلكون عادة قضيّة مركزية توجّه قراراته وجهودهم، لأن النشاط هو بحدّ ذاته قضيتهم. لذلك نجدهم يعملون لكلّ القضايا في الوقت نفسه من دون الالتزام بأي قضية. الأسبوع النموذجي للناشط ممتلىء بالقضايا: يوم الاثنين يعملون مثلاً لقضية مرتبطة بحقوق المرأة، والثلاثاء تراهم يتظاهرون ضدّ شركة ما، والأربعاء تراهم يحتجّون على زيارة سياسي أجنبي ما، والخميس تراهم يدوّنون حول قضية بيئية.

الناشطون المحترفون يحتقرون الالتزامات الأحادية بقضيّة واحدة، ويتشاركون سوية مجموعة من القيم الغامضة لدرجة تسمح لهم بتبرير دعم (أو الامتناع عن دعم) أي قضية أو تحرّك. تعريفهم للنشاط غالباً ما يرتبط بمدى التزام الشخص وظهوره في التحرّكات العشوائية التي يقوم بها مجتمع الناشطين كالمسيرات والتظاهرات، وبأسلوب عيشه أيضاً. الناشطون المحترفون عادة ما يعتبرون أنفسهم متفوّقين على أولئك الذين يلتزمون بقضيّة واحدة؛ ويعتبرون أن التزامهم المطلق بكلّ القضايا هو شكل أسمى من النضال السياسي.

الكاتب اللبناني هاني نعيم يصف مشهد النشاط السياسي في بيروت بطريقة يمكن أن نجدها صالحة لوصف حالة النشاط المحترف في كل مكان:

“هنالك حالة من غياب التركيز في صفوف الناشطين. قدرة كل فرد على المبادرة للعمل من أجل قضيّة ما خلق الآلاف من القضايا والأنشطة. ففي اليوم الواحد، كل ناشط، أو من يعتبر نفسه أنّه ناشط أصبح معرّضاً لعشرات من القضايا اليوميّة، التي تبدأ من المطالبة بحماية حديقة في مدينته وصولاً إلى دعم حركة “احتلوا وول ستريت” في الولايات المتّحدة، مروراً بقوانين منع التدخين، قمع الحريّات، هدم الأبنية التراثيّة، المطالبة بالكهرباء، تحرير فلسطين، دعم الإنتفاضة السوريّة، الدفاع عن حقوق العمّال الأجانب، وغيرها من القضايا التي إذا ما أردنا تعدادها لن ننتهي. هذا الكم الهائل من القضايا لا يُمكن لناشط واحد أن يقوم بمتابعة جميعها، إذا ما اعتبرنا أنّه يُريد أن يُغيّر بشكل حقيقي، وفاعل”[3].

إلى ذلك، يبدو أن الناشطين المحترفين غير مهتمّين حقاً بتحقيق تغيير اجتماعي وسياسي. بكلمات أندرو أكس مجدداً:

“النضال الثوري المزعوم للناشط هو روتين ممل وعقيم – هو تكرار مستمرّ لبضعة تحرّكات من دون قدرة على تحقيق التغيير. الناشطون قد يقاومون التغيير إن أتى لأنه يهدّد الافتراضات السهلة حول دورهم والمجتمع المتميّز الصغير الذي أوجدوه لأنفسهم. مثل رؤساء النقابات، الناشطون هم ممثّلون للناس إلى الأبد ووسطاء. وبنفس الطريقة التي سيكون بها رؤساء النقابات ضد عمّالهم إن نجحوا حقاً في صراعهم لأن ذلك سيطيح بدور رؤساء النقابات، دور الناشط مهدّد بالتغيير الحقيقي. بالفعل، الثورات، أو أي تحرّك في هذا الاتجاه، سيؤدي إلى امتعاض الناشطين بعمق لأنه سيحرمهم من دورهم”[4].

لهذه الأسباب نادراً ما يأخذ الناشطون خطوة للوراء لتقييم عملهم وإعادة النظر باستراتيجيّتهم؛ فهم يقومون بالنشاط – يمارسون دورهم الاجتماعي – كل الوقت. يشير مؤلف “فلنتخلّى عن النشاط” أن “جزء من كون المرء ثورياً يعني معرفة متى يجب التوقّف والانتظار. من المهم أن نعرف كيف ومتى نضرب لتحقيق الفعاليّة القصوى ومن المهم أيضاً معرفة كيف ومتى لا نضرب. الناشطون لديهم ذهنيّة “علينا فعل شيئاً الآن!” التي يبدو أنها تتغذّى من الشعور بالذنب. هذه الذهنية غير تكتيكيّة أبداً”.

بشكله الحالي، النشاط هو أداة الناشط المحترف للتعبير عن هويته الاجتماعية، وليس أداة لربح الصراعات والقضايا. كما في أي مهنة تخصّصية أخرى، يعمل الناشطون على تحسين صورتهم الشخصية وبناء سجلّ محترف من النشاط السياسي. يتعاملون مع النشاط كأنه مهنة لديها منافع اجتماعيّة وماديّة أكثر مما يتعاملون معه على أنه قتال للانتصار بصراع. العديد من الناشطين يحصلون على لقمة عيشهم من النشاط عبر التحوّل إلى موظّفين في المنظّمات غير الحكومية المموّلة جيداً.

في هذه الأيام، غالباً ما ينخرط الناشطون في منافسات لاكتساب الشعبية الاكترونية والإعلامية، ولإبراز أنفسهم على أنهم المثال الأعلى للناشط. في العديد من الأوقات، الناشطون الأفراد لديهم شهرة إعلاميّة أكثر من المنظمات التي يقودونها، لأن التركيز هو عليهم، لا على ما يقومون به. هذا النوع من النشاط يؤثّر أيضاً على العديد من أبناء الجيل الشاب الذين يرونه على أنه النموذج الناجح للنضال السياسي ويحاولون تقليده مما ينشر فكرة “الناشط الناجح” أكثر وأكثر. مفهوم “الناشط الناجح” و”الناشط الحقيقي” هو مفهوم ينتشر بخطوات ثابتة اليوم على امتداد مشهد النضال السياسي ويكتسب في بعض الأماكن أهمّية أكبر من فكرة “الحركة الناجحة”، أو حتى فكرة القضية نفسها. الناشطون المحترفون لا يلاحظون خطورة ذلك لأنهم غير مهتمّين بربح القضايا أساساً، فهم مهتمّون فقط بإطلاق التصريحات والمواقف والحصول على المزيد من الشهرة الشخصية.

هذه التجزأة للجهود وتوزيع الطاقة على عدّة جبهات في الوقت نفسه قلّصت كثيراً من فعالية الناشطين، الحركات، والتحرّكات. كما يقول أحد المدوّنين:

“كل هذا الضجيج غير الفعّال هو إلهاء ضخم عن محاولة إصلاح المعضلات البشرية الكبرى”[5].

هذا النوع من النشاط المحترف خلق أيضاً هوية تسويقيّة محدّدة جداً للناس المهتمين بالتغيير الاجتماعي، وخلق بالتالي هوّة بين الناشطين المحترفين وبقيّة الناس. هذه الهوّة وسّعتها العزلة الاجتماعية للناشطين المحترفين التي تبعدهم أكثر فأكثر عن قضايا الناس الحقيقيّة. أندرو أكس يعبّر عن ذلك بالقول أن “دور الناشط هو بحد ذاته عزلة مفروضة ذاتياً تجاه كل الناس الذين من المفترض أن يتواصل معهم”[6].

كما نلاحظ في كلّ مكان، الناشطون المحترفون غير قادرين على تحقيق معظم أهدافهم المعلنة، وذلك يعود إلى عدّة عوامل، أحدها هو شكل النشاط السياسي الحالي نفسه. فهذا الذي الشكل يقوم على ناشطين محترفين أفراد غير منتظمين في حركات سياسيّة قوية ويتعاملون مع النضال على أنه هوية اجتماعيّة، هو ظاهرة جديدة نسبياً. لا يوجد أي سابقة تاريخية في أي بلد في العالم تقول أن هذا الشكل من النضال السياسي حقّق نتيجة. أكس يشير إلى أن “النشاط المذكور هو في الأساس شكل سياسي وأسلوب عمل يناسب الليبرالية الإصلاحية، ويتم دفعه اليوم إلى أبعد من قدراته ومحاولة استخدامه لأهداف ثورية”[7].

لذلك، بدلاً من المراهنة على أن الشكل الحالي للنشاط التغييري سيحقّق نتائج أبعد من قدراته، علينا أن نتجاوز هذا النموذج لكي يكون بامكاننا تحقيق تغيير حقيقي.

لكن هذا لا يعني أن المهمة المذكورة هي مهمّة سهلة، فالشكل الحالي من النشاط لديه مشاكل بنوية أعمق – أو كما سنشرح في الفصل التالي، لديه مشاكل لابنيويّة أعمق نتحدّث عنها الأسبوع المقبل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية