الما قبل والما بعد

الثلاثاء 16 تموز 2013

تصور معي عزيزي القارئ العام ٣٠٠٠ ميلادية؛ عالم يستكشف ما تبقى من حضارة العرب البائدة حول نهر الأردن، وكل ما عثر عليه هي تسجيلات أثرية من أرشيف ما كان يسمى بالتلفزيون الأردني. لا بد أن الأردن كان يعيش عصوره الذهبية في حقبة الاصلاح! ذلك العالم المسكين لا يعلم أن من قام على جهاز التلفزيون اقترف جريمة بحق الأجيال القادمة. على أي حال، نجد هذه الصورة دوماً مفيدة للتفكير في التاريخ فتاريخنا أحيانا يبدو في معظمه وكأنه تسجيلات مشابهة لما يبثه التلفزيون الأردني، فلا ترى فيه إلا الانجازات والانتصارات، وينقصه الوصف الدقيق للمعطيات العملية للمجتمع. فهل كان فعلاً تاريخنا مشرق دوماً؟ ثم ما الفائدة من التنقيب في تاريخنا أو مستقبل تاريخنا؟

اليوم وبعد مرور عامين على دخولنا حقبة “الربيع العربي”، يبدو من المناسب إعادة النظر في اتجاهات التغيير الذي نمر به ومدى التقدم الحضاري الذي نحرزه ومسببات هذا التغيير التاريخية. فإذا كان المجتمع العربي يمر بمخاض التغيير، فمن ماذا وإلى ماذا؟ وعليه وجب علينا أن نحاول البحث في هذه النقطة ومعاينة أبعادها بهدف التخفيف من ضبابية المشهد. فالظاهر أن المجتمع العربي يخطو إلى مرحلة جديدة ولكن الواضح أيضاً أن هذه المرحلة الجديدة يلفها الغموض، وقد تكون الخطوة الأولى نحو فهم ما يجري هو نظرة سريعة إلى التاريخ السياسي الاسلامي بموضوعية لم نعتد عليها بكتب التاريخ:

-أبو بكر وعمر: يمكن تلخيص مرحلة الشيخان بمرحلة مأسسة الدولة، و بالأخص عهد عمر بن الخطاب حيث أسست الدواوين وركائز الدولة. وأهم ما اختتمت به هذه الحقبة هو تأسيس عمر لأسلوب مبتكر لانتقال السلطة يضمن نوعا من إجماع الأطراف المختلفة.

-عثمان و علي و الفتنة: استلم عثمان بن عفان قيادة الدولة الإسلامية بعد عمر لتدخل السلطة في مرحلة تحول جديدة؛ فمن “فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني” انتقل خطاب السلطة إلى “لا أخلع قميصاً ألبسنيه الله”، وبهذا حصل الشرخ الأول بين الجماهير و السلطة. وفي غضون ست سنوات من حكم عثمان سرت الثورة بين شعوب الأمصار، وتحولت المدينة المنورة إلى ما يشبه ميدان التحرير في مصر، وانتهت ثورة المدينة بمقتل عثمان وحالة استقطاب شرخت المجتمع الاسلامي.

-تلت الثورة تشكل دولتين: دولة علي ودولة معاوية. شكلت دولة علي ما يشبه تحالف ثوري حاول العودة بالسلطة إلى طبيعتها الأولى، ولكن تحالف الأمويين المضاد بني على هدف أوضح وأقرب للتحقيق وهو احتكارهم للسلطة، وانتصر التحالف السلطوي ودخلت السلطة مرحلة جديدة تسمى خطأ بدولة الخلافة مع أنها أقرب الى ما تكون دولة الجماعة.

-الخلفاء: على عكس الاعتقاد الشعبي الذي يقدس “دولة الخلافة” و يصفها عادة بدولة الاسلام، نجد عند المعاينة الموضوعية أن تلك الدول كانت ممالك لعائلات أحكمت سيطرتها على الدولة. فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما أراد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز التصالح مع الجماهير، أرسل غيلان الدمشقي إلى الناس ليرد لهم بعض أموالهم فصار يصيح بهم “تعالوا الى أموال الظلمة، تعالوا إلى أموال الخونة”، قاصداً بذلك الأمويين، واجتمع حوله الناس، وعندما وصل هشام بن عبد الملك إلى سدة الحكم بعد عمر قطع يدي غيلان الدمشقي ورجليه وصلبه في دمشق لقوله هذا الذي وجده هشام مسيئاً له ولابائه. أما دولة العباسيين فلم تسلم هي الأخرى من الثورات المتعاقبة والحركات الثورية كحركة الزنج اللذين انشقوا بدولة جنوب البصرة وحاربوا الدولة العباسية لما يقارب العشرين عاماً وثم تشتت الحركة ولكنها أسلمت قواعدها الثورية لدولة القرامطة والتي قامت بدورها على أسس ثورية اشتراكية لم تدم طويلاً هي الأخرى.

نجد أن التاريخ العربي فعلاً لا قبل فيه ولا بعد في معظم الأحيان. فالقصة متشابهة جداً على مر التاريخ: عائلة تلي عائلة ومهمشون يثورون

على الرغم من أن الشعوب المهمشة في معظم الأحيان لا تجد امامها إلا الثورة على الجماعة الحاكمة، إلا أنها أيضاً تصف التغيرات السياسية والاجتماعية بمصطلحات تدل على المفاهيم أو التغير في المرحلة. فمثلاً يكثر استخدام مصطلحي ما قبل وما بعد في الفلسفة بشكل عام وفي الفلسفة الغربية بشكل خاص. وعند التنقيب بدقة بتراثنا نجد أن التاريخ العربي فعلاً لا قبل فيه ولا بعد في معظم الأحيان. فالقصة متشابهة جداً على مر التاريخ: عائلة تلي عائلة ومهمشون يثورون. لذلك لا نجد مصطلحات تصف تغيراً يذكر للأسف.

إلا أن بعض المصطلحات تقترب من المفهوم التحولي كمصطلح الجاهلية. فالجاهلية تشير إلى “ما قبل الاسلام” كعلامة فارقة في التاريخ المحلي لشعوب العربيا*، والاسلام يشكل ما بعد الجاهلية.  في المقابل ظهر حديثاً مصطلح “الربيع العربي” كمصطلح مقابل للجاهلية كعلامة فارقة في تاريخ العرب. فالربيع هو بداية الازدهار وبداية فصل جديد مشرق، أي أن الربيع العربي هو المصطلح التحولي لفترة  “ما بعد الاستبداد” في التاريخ العربي، وعليه أن يحمل للشعوب نهاية عصر الجماعة وبداية عصر تمكين الشعوب المهمشة.

بالمحصلة، فإن إعلان انتصار الربيع العربي يحصل عندما نرى أن كل الجماعات أو الاحزاب أو التنظيمات السياسية التي تعود إلى عصر “ما قبل” هذا الربيع قد اختفت أو ذابت بصيغة جديدة على الأقل. فالأحزاب والجماعات العربية حتى المعارضة منها تعاني هي الأخرى من نفس الأمراض التي كانت تعاني منها الأنظمة من جمود في الفكر و في الأشخاص. وبالتالي علينا كشعوب أن نكتسب حق استرداد السلطة بالوسائل القانونية المباشرة (كسحب الثقة من حكومة مثلاً متى اجتمعت ارادة الشعب على ذلك)، و عندها فقط وعندما نرى العالم العربي قد استرد العلاقة الصحية بين السلطة والناس نستطيع أن نقول أننا دخلنا و بنجاح عصر “ما بعد الربيع العربي.”

*يستخدم بعض الباحثين التاريخيين كهادي العلوي مصطلح “العربيا” للدلالة على الجزيرة العربية على وزن ليبيا أو سوريا

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية