بيئتنا المبنية: دليل أكسفورد للمدن في التاريخ العالمي

الخميس 13 حزيران 2013

بقلم محمد شجاع الأسد

(نشر بالتعاون مع طريق)

نُشِر دليل أكسفورد للمدن في التاريخ العالمي قبل عدة أسابيع. يضم هذا الدليل الذي حرره المؤرخ بيتر كلارك وأصدرته دار نشر جامعة أكسفورد البريطانية أكثر من 900 صفحة، وشارك في تأليفه أكثر من خمسين مؤلف. وبما أنني واحد من المؤلفين، فليس من المستغرب أن تكون هذه المقالة تقديماً إيجابياً لهذا الكتاب أكثر منها تقييماً محايداً له.

يشمل هذا الكتاب كمّاً وفيراً من المعلومات. ويعالج جزء كبير منه المدن من الفترات القديمة حتى العصر الحديث، ويتطرق إلى مدن في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا والأمريكتين. ولذلك سيجد القارىء المهتم بتطور المدن في فترة معينة أو في إقليم معين أكثر من فصل في هذا الكتاب يتناول اهتماماته. ومشاركتي في الكتاب هي جزء من هذه التغطية التاريخية/الجغرافية إذ أنني كتبت عن المدن في الشرق الأوسط من 1950 وحتى الوقت الحاضر.

ولكن الكتاب يحتوي أيضاً على فصول تركّز على مواضيع معيّنة بدلاً من التركيز على منطقة جغرافية أو حقبة زمنية محددة، ولذلك تضم هذه الفصول مواضيع تربط تطوّر المدن عبر فترات زمنية ومناطق جغرافية. وقد أثارت اهتمامي بالذات الفصول التي تعالج تطور المدن في الفترة الحديثة، أي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وسأُعنى في الجزء اللاحق من هذه المقالة بالمواضيع التي تعالجها هذه الفصول.

تتضمن هذه المواضيع التصنيع والهجرة والفقر وعدم المساواة والتفرقة الاجتماعية والبنية التحتية، وحتى كيفية وصف المدينة في الأفلام. كذلك تتطرق إلى المدن الإبداعية والمدن الضخمة التي نمت من خلال ابتلاع البلدات التي تقع حولها وأيضاً المدن التي نمت في فترات الاستعمار وكذلك الضواحي ومدن الموانيء.

تُظهر هذه الفصول كيف أن التصنيع على نطاق واسع ارتبط بالزيادة المطردة في فوائض المحاصيل الزراعية التي أدّت إلى انتقال السكان والاستثمار من المناطق الريفية إلى المدن حيث تمركزت الصناعة. وقد بدأت هذه الظاهرة في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وانتشرت من هناك إلى أجزاء عديدة من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. ومع نمو هذه الظاهرة المعروفة بالثورة الصناعية ازدادت الهجرة إلى المدن زيادة كبيرة بحيث أصبحت أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية تحتوي على أكبر نسب سكانية في المدن في العالم مع نهاية القرن التاسع عشر، مع أن الشرق الأوسط واليابان كانا يضماّن نسب أعلى قبل ذلك. أما الهجرة من الريف إلى المدن على نطاق واسع في العالم النامي، فلم تحدث حتى النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كانت بسبب عوامل مرتبطة بالمركزية السياسية والإدارية والإقتصادية في المدن الكبيرة، خاصة في العواصم، وليس بالضرورة بالتصنيع.

كذلك تتطرق هذه الفصول إلى مواضيع الفقر وعدم المساواة والعنف في المدن. إن هذه المشاكل منتشرة في المدن اليوم، خاصة في مدن العالم النامي، ولكنها أخذت أيضاً بالإزدياد خلال العقود الثلاثة الماضية في مدن العالم الغربي الغنية. إن السياسات التي وُضعت في العديد من بلدان العالم الغربي منذ الحرب العالمية الأولى والتي ركزت على تحقيق درجات أعلى من العدالة الإجتماعية وتكوين شبكات الأمان الإجتماعي قد بدأت بالتراجع. بالمقابل، فإن الإهتمام انتقل إلى وضع سياسات تُعمى بتحقيق نسب عالية من النمو الإقتصادي بالرغم من أن فوائد هذا النمو لا توزّع بالضرورة بشكل عادل. لذلك فإن الفروقات في الدخل مرتفعة جداً في المدن في كل مكان، وهذه الفروقات تقابلها درجات عالية من فصل السكان في المدن حسب الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. ويتماشى هذا الفصل عادة مع تقسيمات ترتبط بأسس عرقية ودينية. وبالرغم من هذا الوضع المتجهم في المدن، إلا أن الفقراء في الريف عادة يواجهون ظروفاً أكثر صعوبة من فقراء المدن في العالم النامي. ويتبيّن ذلك في الإحصاءات المرتبطة بأمور مثل الدخل والصحة وتوقعات الحياة. ولكن السبب وراء ذلك يعود عامة إلى فشل جهود التنمية في الريف أو ضعفها وليس إلى نجاح المدن في دعم التطور الإجتماعي والإقتصادي للفقراء.

كذلك لا يمكننا التقليل من تأثير قوى العولمة على تطور المدن في العقود الأخيرة. فازدياد العولمة قد تَسبب في حركة كبيرة للسكان من الدول الفقيرة إلى مدن العالم الغنية. إن حوالي 3% من سكان العالم اليوم لا يعيشون في البلدان التي ولدوا فيها، وإن حوالي واحد من عشرة من سكان الدول الغنية وافدون أو مهاجرون، وترتفع هذه النسبة إلى واحد من ستة في بلدان مثل سويسرا. ونجد أن غالبية هؤلاء السكان المهاجرين والوافدين يعملون في وظائف ذات رواتب متدنية ونجد أيضاً أنهم يهمّشون اقتصادياً واجتماعياً في المدن المضيفة.

وتُذكرنا فصول الكتاب المرتبطة بالمواضيع العامة أيضاً بأهمية وجود بنية تحتية تعمل بدرجة مقبولة من الكفاءة في المدينة. إن المدينة لا يمكنها أن تزدهر أو حتى أن تحافظ على بقاءها دون شبكات توفّر المياه والكهرباء والنقل والصرف الصحي والاتصالات. ولا يمكن تأمين هذه الخدمات بشكل جيد دون توفّر أنظمة لإدارة المدينة تتصف بدرجة مقبولة من الكفاءة والمساءلة.

ومع أن العديد من هذه الفصول تتطرق إلى تحديات صعبة تواجه المدن – سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو بيئية، إلا أن الفصل في الكتاب عن المدن الإبداعية يقدم نظرة أكثر أيجابية للمدينة. إن المدن الإبداعية منفتحة على الأفكار الجديدة وعلى السكان الجدد. كذلك تحتوي هذه المدن على البنية التحتية والأنظمة الإدارية والمؤسسات الثقافية الملائمة. ويُقدّم هذا الفصل مثالين للمدن الإبداعية الأولى هما برلين ونيويورك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إن برلين كانت منفتحة على الأجانب، وكانت من أول المدن التي بدأت بتوفير الكهرباء على نطاق واسع، واحتوت على نظام متميز للنقل العام وكانت أيضاً مركزاً للابتكار في الصناعة. وكانت جامعة برلين جامعة رائدة عالمياً في مواضيع تضمنت التقنية والعلوم الطبيعية والطب. أما على المستوى الثقافي، فقد احتوت المدينة على ثلاث دور للأوبرا وعلى العشرات من المسارح. وكانت مركزاً عالمياً جذب العديد من عازفي الموسيقى ومؤلفيها، وكانت مركزاً عالمياً أيضاً للفنون والعمارة. ولكن كل ذلك أنتهى بظهور الحركة النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية وما تبعهما من تقسيم لألمانيا ولبرلين بعد ذلك. إن برلين تبذل جهوداً حثيثة لاستعادة مكانتها بصفتها مركزاً عالمياً للإبداع منذ إعادة توحيدها سنة 1990.

أما نيويورك، فقد تميزت بأسرع نسبة نمو للسكان بين مدن العالم في الثلاثة عقود الأخيرة من القرن التاسع عشر الأكبر في العالم وأصبح ميناؤها الأكبر في العالم. وكذلك استقطبت أكبر تجمّع في العالم من العاملين في الخدمات المالية. واستطاعت بسبب ثروتها أن تصبح مركزاً ثقافياً عالمياً في الفنون والعمارة والموسيقى والمسرح والتصميم. وطبعاً، تم تطوير بنية تحتية متميزة في المدينة مع نهاية القرن التاسع عشر تضمنت نظام نقل عام شامل لا مثيل له في أي مكان. وبالرغم من التحديات الاقتصادية التي واجهتها نيويورك خلال القرن العشرين، فإنها ما زالت المركز العالمي الرئيسي للابداع والابتكار.

من فصول الكتاب التي لفتت انتباهي الفصل عن مدن الموانيء. إن هذا الفصل يبيّن أهمية هذه المدن بصفتها أماكن للتفاعل الاقتصادي والحضاري. ويبيّن أيضاً كيف يمكن لتطوّر تقني معيّن ان يغيّر مجرى الأحداث في المدن. ويتطرق هذا الفصل بالذات إلى تأثير استعمال الحاويات الكبيرة في نقل البضائع في البواخر على نطاق واسع على هذه المدن ابتداءً من عقد الستينات في القرن الماضي. إن هذه الحاويات التي أدّت إلى نقل كميات كبيرة جداً من البضائع مقارنة بوسائل التحميل والتخزين السابقة، ولكنها أيضاً تتطلب عدداً قليلاً نسباً من العمال لملئها وتفريغها، إذ يمكن القيام بغالبية هذه الأعمال باستعمال الآلات. ولذلك فقدت هذه المدن الكثير من الوظائف المرتبطة بالنقل البحري. كذلك فإن العديد من هذه المدن افتقرت إلى المساحات الواسعة التي يمكن فيها تخزين كمية البضائع المتزايدة التي أصبحت تُشحن بواسطة الحاويات، ولذلك انتقل العديد من أماكن التخزين إلى مناطق داخلية بعيدة عن السواحل. وبذلك فقدت العديد من هذه المدن مكانتها الاقتصادية. وتحاول بعض هذه المدن اليوم إعادة الحياة إلى شواطئها من خلال تطوير هذه الشواطيء لتحتوي على مساكن فاخرة ومراكز للسياحة والترفيه، ولكن هذه الجهود لم تنجح دائماً.

إن ما قدمْته في هذه المقالة هو طبعاً قراءتي الشخصية للكمّ الهائل من المعلومات الذي يحتويه هذا الكتاب. ولكن أرجو أن يكون هذا التقديم الأوّلي كافياً لإعطاء فكرة عن الغنى والتنوّع والمرونة التي تتصف بها المدن وعن النشاطات الإنسانية العديدة التي تحويها، وهذا أمر يبيّنه الكتاب بوضوح وتفصيل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية