الشرعية والتغيير

الأربعاء 03 تشرين الأول 2012

 تعرف الشرعية بأنها الحق المتفق عليه للسلطة السياسية بممارسة الأمر أو الحكم. وتشكل الشرعية إلى جانب العقد الاجتماعي الأساس المتين للدولة، فالشعب عندما يتنازل عن حقه في حكم نفسه مباشرة يسلم هذا الحق لحامل الشرعية على أساس النص الواضح المبين لأسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم والمسمى الدستور.

والشرعية، بحسب الفيلسوف الأمريكي روبرت دال، كالسد المائي (أو حساب التوفير بتشبيه أحدث) فإذا نقص عن منسوب معين فقدت السلطة السياسية مبررات وجودها، وفي تلك الحالة يعود الحق بتولي الأمر الى الشعب لإعادة تكوين سلطة سياسية جديدة وإكسابها شرعية جديدة. وعادةً ما تسمى عملية إعادة تكوين سلطة سياسية جديدة ذات شرعية جديدة بالثورة، كمثال الثورة البريطانية عام ١٦٨٨. سبقت تلك الثورة البريطانية (المعروفة باسم الثورة المجيدة) ممارسات من الملك جيمس الثاني للاستئثار بالسلطة، فمنذ ضمن الملك بقاءه على العرش بدأ بمحاولة تقنين الحريات الدينية بقصد تعزيز وضع الكاثوليكيين في المملكة وتعيينهم في مواقع مفصلية في الدولة. وكنتيجة لممارسات الملك وبالتزامن مع تنامي الخوف من مؤامرة لتحويل بريطانيا الى دولة شمولية كاثوليكية فقد الملك معظم مؤيديه وبالتالي شرعيته، فانقلب البرلمان والنبلاء عليه لينتهي الأمر بتجريد العرش البريطاني من الصلاحيات المطلقة (مثل سلطة إعلان الحرب وجبي الضرائب واختيار الوريث) إلى الأبد.

واجه العرش البريطاني مشكلة الشرعية مجدداً في العصر الحديث، ففي منتصف الثلاثينيات (عام ١٩٣٦) اعتلى الملك ادوارد السابع العرش، ولكنه كان مولعاً بعالم المرح والاحتفال، ولم يبدُ كوريث جدي لمؤسسة العرش العريقة (لاستخفافه بالأعراف الدستورية). ومع تزايد التوتر السياسي في اوروبا قرر الملك الزواج من عشيقته الأمريكية (المطلقة) مما كان يشكل مخالفة دستورية أغضبت رئيس الوزراء والبرلمان. كان بإمكان الملك حل البرلمان وإقالة الحكومة مع الدعوة إلى انتخابات جديدة، ولكن إجراء كهذا كان ليشكل خطراً على شرعية الملك (فالتصرفات قصيرة المدى وغير المبنية على توافق سياسي ورؤيا مستقبلية تترك انطباعاً سيئاً عند الشعب، وتفقد المؤسسات السياسية رزانتها) وبالتالي لجأت العائلة المالكة البريطانية إلى اقناع الملك بالتنحي لصالح أخيه، واستمرت العائلة المالكة وجنبت البلاد أزمة سياسية في وقت صعب، محافظةً في نفس الوقت على شرعية النظام، لا بل وعززتها. 

 يظهر من الأمثلة السابقة وغيرها أن الشرعية هي حالة من الإبهار تتركها السلطة السياسية في نفوس الشعب فتترك لديهم انطباعاً بأن النظام السياسي الحالي هو الأفضل، وما كان للدولة أن تحقق انجازاتها بدونه. فما هي الشرعية التي يتميز بها النظام السياسي في الأردن؟ وكيف يمكننا صياغة التغيير المرجو في الأردن بصيغة مستمدة من تاريخ الدولة والسلطة الأردنية؟ 

لتتبع مسار شرعية النظام السياسي في الأردن يجب تتبع تاريخ تكونه والذي يعود في بداياته إلى الأب الحقيقي لهذا النظام: الثورة العربية الكبرى. ففي المنشور الذي أذاعه الشريف حسين في مكة لإعلان الثورة، أكد الشريف على أهداف الثورة والدوافع وراء سحب الشرعية من العثمانيين، والتي تظهر بالمقطتفات التالية من المنشور: 

• “وأما اسرافهم في أموال الدولة وارهاقها بالقروض الفاحشة فأمره معلوم للعامة والخاصة”
• “وكذلك اضاعتهم لعدة ممالك من الدولة”
• “وكذلك إثارة الأحقاد الجنسية الممزقة لشمل الأمة العثمانية”
• “‫”وقد أمكنتهم فرصة إعلان الأحكام العرفية في البلاد من تنفيذ كل ما يريدونه في العرب، فطفقوا يقتلون ويصلبون كبراء نوابغ النهضة العربية الذين اشتهروا بغيرتهم على الأمة والدولة من أرباب المعارف والأفكار وحملة الأقلام و بارعي الضباط”

نرى من منشور الشريف حسين أن الاستبداد اللذي مارسته الدولة العثمانية وسوء ادارتهم للبلاد إلى جانب الفساد المالي كلها شكلت مبررات لسحب الشرعية من الأستانة. وبالتالي كان لا بد للدولة الجديدة أن تبني شرعيتها على أساس تلبية هذه المطالب والمحافظة عليها كحجر بناء الدولة العربية الجديدة، فظهور هذه الحقوق الى العلن شكل الدافع الأساسي وراء الدعم العربي للثورة العربية والتقاطر على مبايعة الشريف حسين ملكاً للعرب. 

 أما اليوم وقد قارب عمر الثورة العربية الكبرى على المئة عام، نجد أنفسنا مرغمين على مراجعة الماضي وتقييم الحاضر. فهل حققت الثورة العربية الكبرى أهدافها؟ وهل تم المحافظة على تلك الأهداف كميثاق للأردن، وهي الدولة العربية الحديثة اللتي ورثت الثورة العربية؟ الإجابة بوضوح في منشور الشريف حسين، فالتشابه ما بين الظروف التي سبقت قيام الثورة العربية الكبرى والظروف اللتي يمر بها الاردن (بأمثلة الفساد وبيع مقدرات الوطن وقمع الحريات) كبير بطريقة مخيفة. فهل تعي السلطة السياسية في الأردن قواعد شرعيتها؟ أم أنها تتصرف على أساس إن الشرعية هي هبة لا تنضب؟ فالمتابع للتعاطي الحكومي مع أحداث العامين السابقين يستنتج أن السلطة السياسية في الأردن فقدت الاتصال مع قواعد شرعيتها، وتعتقد أن الأزمة الحالية هي مجرد عاصفة ستمر آخذةً معها القليل من التنازلات هنا والتعديلات الشكلية هناك. لكن المطلوب اليوم لم يعد فقط اجراء تعديلات ولكن اجراء تغيير ووقف للنمط الحالي في ممارسة الحكم مصحوباً باجراءات ضمانية تؤكد للشعب الأردني أن السلطة السياسية التي وثق بها لا تزال تحترمه ولا تزال تعتبره مصدراً للسلطات كما نص الدستور. الإجراءات المتاحة أمام السلطة السياسية في الأردن عديدة، ولكنها جميعها تمر من باب تحمل المسؤولية، فالخطوة الأولى هي الاعتراف بأن المشكلة تقع فيها هي، أي أن محاولة هذه السلطة (ممثلة برأسها) معالجة الأزمة وكأنها في تقع فقط في دوائر الحكومة خلل خطير ولن تقود إلا الى تأزيم أعمق يهدد شرعيتها. 

 للأسف لا يبدو أن الدولة ستقدم على خطوة من هذا النوع في القريب العاجل، رغم أن الوقت لا يزال متاحاً.  لكن بالتأكيد تبقى كلمات الشريف حسين أكبر شاهد على درايته بكبر المسؤولية على عاتقه وعاتق من سياتي بعده، إذ قال: 

 “إن وجودنا السياسي مكفول لنا بالاستقلال التام الذي لا تشوبه شائبة. ولو أن هذا العمل الذي أعتقد فيه كل الصلاح لقومي وبلادي وديني، يعترضه أحد بسوء، ولو كان أحد أولادي لصلبته بيدي غير أسف عليه، لأني أحب بلادي وديني أكثر من كل شئ في الوجود، ولولا هذه المحبة لما نهضت هذه النهضة وسأبقى مستمرا في خطتي غير متزعزع فيها ولا متحولاً عنها حتى يقضي الله أمره. إن هذه النهضة عربية، تشمل كل عربي كائناً من كان. على شرط أن يكون صادقاً لوطنه مخلصاً لقومه.” 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية