لولا نيسان المجيد

الثلاثاء 17 نيسان 2012
صورة مجمّعة لعناوين عدد من الصحف العربية مغطية الهبّة

لو قام السائقون والعاملون على خطوط النقليات الداخلية والخارجية بتعديل أجرة مركباتهم بعد أن حصلوا على موافقة رقيب السير الفردية، لربما ما كان هناك علامة فارقة في تاريخ الأردن تسمى “هبة نيسان”. لو أن هؤلاء المواطنين لم يصروا على الإضراب حتى الحصول على كتاب من وزير الداخلية يفيد بجواز تعديل الأجرة لتغطية ارتفاع أسعار المحروقات، لما ألهموا باقي أهالي محافظة معان وباقي سكان البلاد الذين خرجوا عن صمتهم في ذلك اليوم الموافق 18 نيسان من عام 1989.

وفق روايات الجيل الأكبر الذي عاصر حقبتين من “القمع” – تلك الحقبة التي انتهت بانقضاء شهر نيسان من العام 1989 والحقبة الأخرى التي تلت عام 1993 وتستمر مظاهرها إلى يومنا هذا – فإن القمع السالف يفوق قدرة جيل اليوم على الاستيعاب. بحسب رواية الكاتبة الصحفية لميس أندوني، يصعب على جيل لم يولد في أيام القمع الأولى أن يتصور حدّته، فهو لم يكن “دموياً” كما هو الحال في سوريا، ولكنه كان متفشياً ويتخذ من لقمة العيش وسيلة لإسكات المعارضين والأصوات المطالبة بالديمقراطية.

لم يستيقظ أهالي معان يوم 18 نيسان وقد امتلكوا للتو نيّة الاحتجاج على الظلم والفساد والغلاء، فقد كانت “الوصفة القائمة”، على حد تعبير أندوني، تشير إلى أن “الانفجار قادم”، فتوضح أندوني، والتي كانت تراسل عددا من الصحف الأجنبية في ذلك الوقت، أن المرء لا يحتاج لأن يكون عبقريا ليعلم أن “الوضع ما كان ليستمر طويلا على ذاك المنوال في ظل كبت شديد للحريات”.

بحسب الوثائق التي جمعتها مجلة “الأردن الجديد”، والتي كانت تصدر من قبرص وتوزع في البلاد في ذلك الوقت بشكل سري، فإن حصة الفرد من المديونية في الفترة التي سبقت نيسان 1989 جعلت الأردن يتصدر قائمة الدول النامية في هذا المضمار فقد بلغت 2800 دولار للفرد الواحد، وكانت أيضا قابلة للارتفاع إلى 3500 دولار اذا ما صحت الأرقام غير الرسمية التي قدّرت المديونية الخارجية بـ11 مليار دولار.

أزمة المديونية والفساد الحكومي المتفاقمة تزامنت مع مظاهر القمع المختلفة، ففي ذلك الوقت كانت الأجهزة الأمنية صاحبة الصلاحية المطلقة واليد العليا في شؤون البلاد، وتم حل مجالس ادارة الصحف الكبرى لتستولي الحكومة على 60 % من أسهم جريدة “الرأي” و”الدستور” وتغيّر رؤساء تحريرها. ولم تسلم النقابات المهنية أيضا من اليد العليا، فقد كانت تتعرض لأنواع من المضايقات التي تستهدف نشاطها السياسي أيضاً.

المشهد الداخلي المحتقن اشتعل بدخول صندوق النقد الدولي إلى الأردن ورفع أسعار المحروقات ورفع الدعم عن الخبز وانهيار القيمة الشرائية للدينار، فكانت “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”. عندما اندلعت شرارة الاحتجاجات، كان اسم أندوني يندرج في قائمة تضم ٧٠ اسماً مطلوب اعتقالهم في حال ذهبوا إلى الجنوب، وكان رئيس الوزراء آنذاك زيد الرفاعي قد صرح على الملأ أمام وسائل الإعلام قائلاً “لو لم تكن أندوني امرأة وتعاني من المرض، لكان مكانها السجن”. كما أن جواز السفر الخاص بأندوني كان لا يزال حبيس أدراج الدولة، شأنها في ذلك شأن العديد من الناشطين والصحفيين الذين لم يستعيدوا على جوازاتهم لولا “نعمة الهبة”.

أما أولئك الذين كانوا في معان يوم 18 نيسان، فقد سمعوا الهتاف الذي ردده الناس وهم يسيرون باتجاه مبنى محافظة معان، فقد رددوا “لا رفاعي بعد اليوم، لا رهيجة بعد اليوم”، وذلك في اشارة إلى رفضهم لسياسات حكومة الرفاعي التي استلمت سدة الحكم في عام 1985 وبقيت حتى عام 1989 واستنكارهم أيضا لـ”الفضيحة الأخلاقية” التي ارتبطت بوزراء في حكومة مضر بدران التي شكلت في النصف الثاني من السبعينيات وبقيت تتردد على ألسنة الناس لفترة طويلة من الزمن.

عندما وصل الناس إلى مبنى المحافظة في ذلك اليوم، استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والرصاص لتفريق المتظاهرين، فكان لخبر وقوع جريح من بين المتظاهرين وقعا كبيرا أدى إلى استفزاز الناس في معان وفي محافظات الجنوب بالتوالي، فالتحق المواطنون من الكرك والطفيلة بالمحتجين في محافظة معان ونهضوا جميعا يهتفون بصوت واحد لإنهاء “الحقبة السوداء”. تقول الروايات التي وردت في “وثائق الانتفاضة” في مجلة “الأردن الجديد” بأن أهالي المزار توجهوا إلى منزل المتصرف، والذي استخدم مسدسه الخاص وأطلق النار على المتظاهرين بحسب الرواية الواردة في الوثائق. تبلغنا الرواية أيضا أن جندياً في المزار قتل برصاص زميله الذي كان يحاول ثنيه عن اطلاق النار على المواطنين.

ولم يتخلف أهل الشمال عن مساندة أهالي الجنوب، فقامت العديد من المظاهرات في إربد وغيرها من محافظات اقليم الشمال، وبدأت البيانات والرسائل تتوالى مخاطبة الملك الراحل الحسين بن طلال وولي العهد آنذاك الأمير الحسن بن طلال. بحسب المراقبين، فإن أهم ما كان يميز الحراك الشعبي الذي أخذ على عاتقه تخليص الأردن من مرحلة الأحكام العرفية هو تمسك المواطنين بالنظام، وان كان الغضب قد وصل إلى مستويات خطيرة، فقد بقيت البيانات والرسائل في معظمها تدعو الملك وولي العهد إلى التدخل وإنقاذ البلاد من العنف.

ولعل المذكرة التي بعثت بها فعاليات محافظة الكرك تلخص المزاج الشعبي ومطالبات الناس، فقد خاطبت الرسالة التي كان نقيب المهندسين آنذاك ورئيس مجلس النقباء المهنيين المهندس ليث الشبيلات من أوائل الموقعين عليها ولي العهد آنذاك وأخبرته بأن “هذا البلد الصغير المهدد في كيانه ليتطلع إلى ضرورة تغيير نظرة القيادة إلى الأمور فبدلا من أن تكون القيادة ملاذا للجميع، استطاعت الحكومات في السنوات الأخيرة أن تقنعها بأن كل انتقاد موجه للحكومة انما يقصد به القيادة، فهزلت الحكومات في نفس الوقت الذي طغت فيه، ولم تعتمد على كفاءتها لتثبيت وجودها، بل أصبحت دائمة الإختباء تحت مظلة جلالة الملك مستغلة رصيده لدى الناس مستهلكة ذلك الرصيد غير مضيفة اليه شيئا، وإن النصيحة، كل النصيحة، في أن الأمر اذا بقي على ما هو عليه فيسقضي يوما من الأيام على ذلك الرصيد الذي هو عماد الوحدة الوطنية للبلاد الغالية”.

لم تسلم “هبة نيسان” من قوى “الشد العكسي”، فقد أشبعها الفريق المنضوي في اطار هذه القوى اتهامات جاهزة بأنها تحمل أجندات أجنبية، وأن الحراك كان ينوي اثارة “القلاقل” وغيرها من الأوصاف التي يبدو أنها تصلح لكل زمان ومكان، وقد ناهضها الكثيرون ممن يعدّون أنفسهم من “صلب المعارضة” اليوم. أحسب أن ما جعلها “هبة مجيدة” هو أن النظام لم يستمع لقوى الشد العكسي آنذاك، وأدرك بأن “الطريق مسدود” وبأن الديمقراطية قادمة لا محالة، فبادرت السلطات بإطلاق سراح المعتقلين، واعادة جوازات السفر المصادرة، وإجراء انتخابات نيابية أفرزت مجلساً لا زلنا نتغنى به إلى يومنا هذا.

قبل أن نلتف على الديمقراطية الناشئة، كان من أهم ما أحرزه الحراك الشعبي هو المشهد الذي وصفته أندوني بأنه كان بمثابة “فرجة” يتشوق إلى رؤيتها الناس، فبعد نيسان، كان “الشيوعي يترشح للانتخابات ويعلن على الملأ بأنه شيوعي” بعد أن كان مطارداً لثلاثة عقود، فلولا “هبة نيسان”، لما خرجت “شيوعيته” وانتماءات غيره من المعارضين إلى السطح بتلك الأريحية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية