أنا مش مستورة

الخميس 12 كانون الثاني 2012

بقلم دانا سليمان

باردٌ صباح عمان هذا اليوم.. ربما بسبب درجات الحرارة المتدنية، أو بسبب حالة البرود الأخلاقي التي نعيشها. برود أخلاقي وبرود اجتماعي.. بكل الأحوال، قررت ارتداء المعطف الأسود حتى أذهب مع أمي لزيارة جدتي كما اتفقنا. بمجرد أن بدأت الرحلة ظهرت أول أزمة لهذا اليوم، أو لنقل صراع.. فأنا أرفض الاستماع لبرنامج الوكيل أو ما تبثه “ميلودي”. بحثت عن “سي دي” ماجدة، ها هو… شكرا ماجدة الرومي، فقد أنقذت صباحي.

بدأت الرحلة. أول محطة كانت محطة الوقود، مرت على خير. ها أنا أكذب، صراحة ليس تماما على خير، كنت قد قررت مسبقا أن أبدأ من تاريخ اليوم بضبط مصاريفي، لهذا ملأت بنزين بمبلغ قليل، الأمر الذي لم يعجب أمي، فعلى حد قولها: “ما انتعشت السيارة!”

المهم، وصلنا إلى المحطة الثانية.. إشارات طبربور…

بائـع الجرائد الأول.. لم أشتر الجريدة.. فأنا أكره الرأي.. بوق الدولة! قلت له شكراً.

جاءت بعده متسولة، قلت لها «الله يعطيكي» باعتبارها «بتفصّل منّي ثلاثة»، وصوتها جهوري حتى من خلف زجاج السيارة، وتغطي وجهها بنقاب. لم لا تعمل عوضاً عن التسول؟

بائع جرائد أخر… لا أعتقد أنه بلغ العشرين بعد.. جاء من بعيد وهو يقول لي «آخر وحدة، آخر وحدة»، ثم اقترب من زجاج سيارتي «آخر وحدة.. اشتريها وبروّح.. الله يستر عليكي».

عادة أتجنب النظر لمدة مطوّلة بوجه الباعة.. ليس «شوفة حال» لا والله، فأنا ألتفت إليهم لأقول «لا شكراً» ثم أعود وأدير وجهي، لأن النظر مطوّلاً سيفتح باباً للنقاش، والمفاوضة، ومحاولات الإقناع، وأنا غالبا ما أكون قد حسمت أمري مسبقاً بخصوص الشراء من عدمه.

«آخر وحدة.. اشتريها وبروّح.. الله يستر عليكي».

لم أتمالك أعصابي، التفت إليه وكل مشاعر الكرة الأرضية متمثّلة على معالم وجهي، وقلت له «بدّيش الله يستر عليّ»، فهرب! نعم هرب!

بدأت أمي بالقول «لا حول ولا قوة إلا بالله.. الله يستر علينا جميعاً». قلت لها «بدّيش الله يستر عليّ.. أنا مستورة.. هم مش مستورين».

قالت: «كلمة وبتنقال.. بعدين الكل بدوّر على الستر».

هل سبق لأحدكم أن سمع بائع أو متسول يقول لرجل «الله يستر عليك»؟ مع أنه بحسب ادعاء أمي فالجميع يريد الستر فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض ولا أدري متى وأين أيضاً. ومع هذا ندعي بالستر للبنات فقط.. أو بحسب قولهم «للولايا»، باعتبارهن إمّا لم يغطين رؤوسهن بعد بقطعة القماش إياها، أو لم يتزوجن بعد.

«بدّك تصلحي الكون؟» سألتني.. قلت لها «لا.. بس ما بدي الكون يخربني معه. الله أعطاني الصوت لأحكي. وباعتباري لا أعتبر صوتي عورة فأنا ما رح أسكت، رح أضلّي أحكي لأموت.. يا إلهي كم حدا رح ينبسط لما أموت».

المهم أكملنا الرحلة. قبل أن نصل تذكرت أننا لم نتناول الإفطار، وأني جائعة.. فاتفقنا أنا وأمي أن أقوم بإيصالها إلى بيت جدتي وأذهب مشياً إلى محل المعجنات في أخر الشارع.

أريد تناول «مناقيش» الزعتر مع شاي.. بدأت أتصالح مع ذاتي.. وأحاول إنقاذ ما تبقى من صباحي العمّاني. آه كم أحب عمّان.

مشيت إلى محل المعجنات، الساعة هي 10:30 صباحاً وطلاب المدارس يملأون الشارع.. أنهوا دوامهم الصباحي للتوّ.. أو يتجهون إلى دوامهم المسائي. لا أعلم حقيقة. ما علينا. كان هنالك أربعة أولاد يمشون على عرض الرصيف، والمكان الوحيد الذي أستطيع أن أمر منه هو في منتصفهم. لما مررت قام أحدهم برفع ذراعه فوقي حتى أمر من تحتها، لا أعرف ما هي النشوة التي تصيب مراهق في طريقه من أو إلى المدرسة لأن أنثى مرت من تحت ذراعه. ما علينا.

وصلت محل المعجنات. المحل صغير والناس كثر، معظمهم رجال.. الجميع ينتظرون «مناقيش» الزعتر. جهزت أول دفعة «مناقيش»، فأعطاهم البائع إلي سيدة كانت تقف مباشرة أمامه وتحمل طفلاً رضيعاً. للأمانة أنا لا أعلم إن كان أعطاها «المناقيش» باعتبارها من أول الواصلين إلى المحل، أو لأنها سيدة، أو لأنها تحمل طفلاً، فأنا كنت قد وصلت لتوّي. أخذت السيدة «المناقيش» وخرجت، وبدأ شاب بالصراخ: «شو يا محمد؟ كل ما تطلع دفعة مناقيش بتعطيهم لوحدة؟ وبعدين؟». التفت لي رجل مسنّ، كان أيضا يقف بالقرب من محمّد، وأنا كنت أقف بعيدة عند الباب، وقال «محمد.. مشّي هالمستورة.» لا أعرف ما الذي تهيّأ له؟ أنا لم أطلب من أحد أن «يمشّيني»، فعلياً أنا ليست لدي أي مشكلة أن أنتظر كل هذا الدور، وقبل أن أفكر حتى بماذا سأرد عليه يقاطعني صوت نفس الشاب الذي كان يصرخ «نعم نعم؟ لا ياخوي! ما فش مستورة.. المستورة بيجي جوزها أو أخوها بشتري الفطور.. مش بطلعها وبظل قاعد في الدار.»

لم أغضب لأن الشاب رفض أن «يمشّيني»، فأنا بلأساس أرفض أن «يمشّيني» أيّ كان. أنا مشكلتي أنه يعتبر أن مجيئي إلى محل المعجنات هو قلة سترة. «بحلقت» عيوني أتفحصه من فوق لتحت، لاحظ فارتبك. ثم قررت أن لا أرد عليه ولا على المتكلّم الذي سبقه.

مشي الدور، وصار كل واحد يأخذ “مناقيشه” ويخرج، وصرت أتقدم على مهل نحو محمّد، بائع المناقيش، وقبل أن أصل عنده تماما كان هناك ولدين، أعمارهم بين 13 إلى 16، أحدهم لا أرى منه إلا ظهره والأخر يراقب محاولاتي للمشي، فقرر أن يساعدني وقال لصديقه «مرّق هالبنوتة». فكّرت «يلعن أبو المناقيش على أبوكم.. مش ساكتة هالمرّة» فقلت «أنا ما إسميش بنوتة». قال «نعم؟». قلت «زي ما سمعت.. أنا ما إسميش بنوتة». سأل «ولّا شو؟» فقرّر صاحبه أن يساعده «مدام».

يا إلهي.. من عمر 13 إلى عمر 70 يفكرون بنفس الطريقة. من عمر 13 إلى عمر 70 لا ينظرون إلي أبعد من أنني أداة للطبخ والتنظيف والجنس والحمل والولادة. من عمر 13 إلى عمر 70 يعتقدون أنه من الخطأ ألا أغطي رأسي ومن الخطأ ألا أتزوج ومن الخطأ أن آتي لشراء المناقيش.
من عمر 13 إلى عمر 70 اختلفوا في شيء واحد فقط.. إن كنت مستورة أو «مش» مستورة..

أنا «مش» مستورة.. تركت السترة لكم.. سترتكم «ما بتلزمني».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية