استجداء على الهواء

الثلاثاء 04 تشرين الأول 2011

بقلم ضياء اشتية

اصمتي يا فيروز!

في الأردن، وفي ساعات الصباح الباكر، يستيقظ الناس على هدير برامج إذاعية صارت رائجة منذ سنوات، يقلد بعضها بعضاً في المضمون والجوهر، وتحافظ على اختلافات طفيفة في الشكل والأغاني (أو الأناشيد كما يسميها آخرون) ، لغاية إعطاء الصبغة العامة لسياسة المحطة ومالكيها والفئة المستهدفة، مواطنٌ يتصل بالمذيع ليقدم مَظلمته، والأخير يتصرف بطريقته الخاصة ليحلّ المعضلة وفق اجتهاده الشخصيّ، ينافسون بذلك فيروز على ما تبقى لها من حصة في بدايات نهارنا.

ذلٌّ مُـتـفقٌ عليه – ضمنياً –

لم نعهد على الأردني أن يُـضحي يتسوّل حقوقه الخدميّة والمطلبية من خلال هاتف نقال، أو أن “يشحد” أرزاقه ومكتسباته مفضوحاً عبر الأثير، ويتوّسل مساعدة من موظفين مهملين، أو حتى أن يشكو تقصيراً صدر عن مسؤولين ومؤسسات كبكاء الطفل لوالده، أصبحنا نشكر الآخرين على واجبهم الذي يقبضون ثمنه من جيوبنا في آخر الشهر، نحن الأردنيون الذين اختلفنا في مفاهيم الهوية والمواطنة والمساواة واتحدنا كالأخوة في دفع الضرائب والرسوم للجباة، ليس بعزيز نفس ذاك الذي اعتاد على ثرثرة النفاق ومُـعلــّـقـات التملق وعبارات التزلــّـف والدّجل الإجتماعي والرقص على موسيقى الكذب التي تصدح بها أسطوانة مشروخة وضعت عليها كلمة “الولاء”، وتسويق ذلك كله يعد ذلاً مبطنٌاً ومتفقٌاً عليه يتناوله الأردنيون وجبة قبل فطورهم، ويتجرعون كأس الإهانة للنفس البشرية وإنسانيتها قبل فنجان قهوتهم.

لمن يروجون ثقافة الاستجداء وأصوات البسطاء المستضعفين المنبعثة من سماعة المذياع في أرجاء الوطن؟ ولمصلحة من ينخرون شجرة العزة والكبرياء وعفة النفس التي ورثها الأردنيون عن أجدادهم ومن تاريخهم؟ الأردنيون الذين باتوا يحمدون الله أن خط النجاة الساخن قد انتشلهم بعد أيام وأسابيع من محاولات بائسة كانوا يتضرعون خلالها بالدعاء كي يلتقطوا كلمة الترحيب على الجهة الأخرى من الخط، ويوجـّـهون حناجرهم وآذانهم إلى ديوان مظالمَ وهميّ يذكـّـرنا بما كنا عليه وكيف كانت تدار شؤوننا في العصور الغابرة، مع تحديث إجباريّ على الشكل؛ من قصائد ورسائل المدح التي يتلوها اللاهثون خلف عربة الوالي، إلى هاتف وقنوات أف أم ،،، إنها “عصرنة” التخلف.

الدور الرقابي المشوّه

لا يقتصر الأمر على هدر الكرامة المخزنة في دمائنا، بل يتعداها ليدقّ ناقوس خطر للخلل البنيوي الذي يصيب الأجهزة الرقابية الرسمية المعنية بمتابعة أداء المسؤولين والمؤسسات، فبسبب الترهل والمحسوبية والعجز والتواطؤ بين هذه الأجهزة الرقابية والدوائر المسؤولة عنها، صارت هذه البرامج الإذاعية الصاخبة هي المقياس للتفاني في العمل والإخلاص له، وهي المعيار الذي بناءً عليه توزع شهادات حسن السيرة والسلوك من جهة، والتشكيك والتشهير من جهة أخرى، من خلال سياسة المدح والقدح على الهواء مباشرة نتيجة للأحكام التي يصدرها المذيع حسب فهمه الخاص واللحظيّ ومزاجيته المتقلبة بغرابة، وهي أحكام تشكلت في ذهن المذيع فقط خلال دقائق معدودة، مستفيدا هذا الأخير من خبرة اكتسبها تجعله قادراً على تغيير نبرة صوته كي تتلائم مع امتعاضه من قضية ما، واستيائه من تباطؤ مشروع ما، وانبهاره بأداء مسؤول ما، وتبرئته لأحد المتنفذين من قضية فساد ما لأنه على “معرفة شخصية به” وأنه “زلمة غانم ونظيف”، وهذا أسلوب يفتح الباب على مصراعيه لشراء الذمم مقابل السكوت وغضّ البصر والثناء الزائف المنتشر عبر أمواج البث في هواء التنفس.

إن استدراج الناس والدفع بهم لهذا المربع المحاط بعوزهم وضعفهم وحاجتهم، يجعلهم يثقون مـُـكرهين بهذه البرامج، وتزداد مصداقيتها لديهم على حساب الثقة بالأجهزة الرقابية القانونية ومصداقيتها، وهي المنوط بها كشف التقصير والترهل والإهمال، والحفاظ على سير المؤسسات وكفاءة الموظفين والمسؤولين كما يجب، وكما هو موجود في كل بلد تحترم مواطنيها وتقدس الموضوعية والمهنية وتطبيق القانون لتحقيق العدل في مجتمعاتها.

تقزيم المشاكل

تحت تأثير فتنة قوة الصوت عبر الأثير، وجبروت المايكروفون وغطرسة المذيع، يتم الضخ اليوميّ لأطنان من مظاهر القصور الثقافي والحضاري وعدم الاحترام لعقول الأردنيين والتجهيل غير المتوقف الرامي لتضليل المستمعين الذين ضحـّـوا من حيث لا يدرون بصباحات أكثر هناءً وإشراقاً مقابل لذة الانصات لمشاكل بعضهم البعض، وإدمان الاستماع للشكاوى الدائمة، واعتياد النكد اليومي، ومتابعة مسلسل مستمر عن الإحباط المتشكل كـ “موزاييك” من آلاف الهموم المنتشرة أفقيّاً جنبا إلى جنب والمتراكمة عموديا طيلة سنوات.

أخشى ما أخشاه أن يصل الأردنيّ لقناعة في لا وعيه وعقله الباطن أن مشاكل البلد ومصائبها هي فقط تلك التي يتم تداولها في هذا البرنامج أو ذاك، وأن أقصاها هو بطء معاملة في إحدى الوزارات أو إهمال طبي في أحد المشافي، مغفلة هذه الإذاعات عن قصدٍ قضايا الفساد الاقتصادي والإداري والإصلاح السياسي والقبضة الأمنية على الحريات العامة وعدم تطبيق القانون إلا بانتقائية، فبعد سنوات من إفساد العقول وبعثرة الأولويات، يسهل على هذه البرامج أن تضخم المسائل الثانوية والهامشية على حساب قضايا مصيرية أكبر تمس الوطن وأبناءه، فيتم تشتيت انتباههم وإلهاؤهم عنها ليركزوا اهتمامهم على الغث دون السمين.

في أمل !!!

قد تستمر هذه الظواهر الإعلامية حيناً من الدهر إلى أن تضعف ظاهرة التصفيق من المغرمين بضحكة المذيع وخفة دمه وإقبالهم على برنامجه ذائع الصيت حالياً، هي مسألة وقت لا أكثر قبل أن تحين لحظة الإصلاح الحقيقي الشامل سياسيا واقتصادياً وثقافياً ويصل إلى الجهاز الرقابي ليطوّره ويُـفعّـله ليقوم بدوره بشفافية ومصداقية دون الحاجة لجعجعة وفزعات، مسألة وقت قبل أن يلفظ الأردنيّ كلّ ما من شأنه امتهان كرامته وتعويده على الذلّ في طلبه لحقوقه، ويرفض كلّ ما من شأنه استغفاله والاستخفاف بعقله، ويكون قادراً على التفريق بين دعوات بناء أردن ديمقراطي وبين التجييش والتحريض واقتراحات إسقاط الجنسية عن “المسيئين”.

—-

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية