عدائية المدينة

الأحد 09 تشرين الأول 2011




بقلم محمد الأسد*(نشر بالتعاون مع طريق)

كنت أقود سيارتي خلال شهر رمضان الماضي للذهاب أنا وعائلتي إلى منزل قريب لنا للإفطار. وفي الطريق، فوجئت بسائق سيارة ورائي يطلق عنان بوق سيارته ويصرخ علي بغضب شديد لأن سواقتي – التي التزمت بالسرعة القصوى المعلنة – منعته من التسابق في الشارع. عندما ذكرت هذا الفصل المزعج لأصدقاء وأقرباء لي أشار أغلبهم أنه علي اتخاذ الحذر عند التعامل مع مثل هؤلاء الناس إذ أنه من الممكن بسهولة أن يلجأوا للعنف. والغريب أنني مررت بتجربة مماثلة بعد ذلك بعدة أيام فقط وأنا في الطريق إلى منزل قريب آخر لنا للإفطار. إن ما حدث لي للأسف لم يكن حادثاً معزولاً بل أمراً يتكرر دوماً في شوارعنا.

إننا في الأردن نتميز بمعاملة ضيوفنا في بيوتنا بكرم ودفء، ولكن لحظة ما نخرج إلى الأماكن العامة سرعان ما تختفي هذه الصفات الطيبة ليتحول تصرفنا إلى ما يمكن وصفه بالعدائية. ويبرز هذا التصرف العدائي من خلال ممارسات عدة تتضمن مضايقة الشباب للنساء في الشوارع، وإلقاء النفايات في كل مكان، ووضع قارمات “ممنوع الوقوف” والحواجز في الشوارع أمام المنازل والمحلات. ويبدو في الكثير من الأحيان كأنه إذا لم يضطر الشخص للتصرف بذوق ودماثة مع من لا يعرفهم فإنه لن يقوم بذلك. لذلك نجد أنفسنا مضطرين لأخذ وقفة دفاعية لحظة خروجنا من منازلنا.

كيف يمكن أن نفسر هذه التصرفات المتناقضة؟ إن التفسير مرتبط بعض الارتباط بحالات التوتر والقلق والإحباط المنتشرة بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في منطقتنا من العالم. كذلك يمكن تفسير هذه التصرفات من خلال نمو عمان السريع والمضطرد خلال الثلاثين سنة الماضية. لقد فقد سكان عمان بسبب انفجارها السكاني الألفة التي كانت تربط بعضهم البعض وتجمعهم بصفتهم قاطني المدينة وأحيائها. وفقدوا بذلك انتمائهم للمدينة وأحيائها حتى لا يكاد الكثيرون يعرفون جيرانهم. وبذلك ننسحب إلى داخل دوائر اجتماعية ضيقة تتكون من أقربائنا وأصدقائنا. والنتيجة أن أنظمة السلوكيات التي تربطنا مع هؤلاء الأقرباء والأصدقاء غالباً لا تشمل الآخرين.

إننا جميعنا نحتاج إلى أسس تنظم سلوكياتنا مع من حولنا. وتُنظَم هذه السلوكيات في الكثير من الأحيان من خلال القوانين والأنظمة. لذلك هناك غرامات تعاقب من يقود سيارته بتهور أو يعاكس النساء أو يلقي القمامة في الشارع أو يحتفل بإطلاق العيارات النارية أو يجبر حيه بأكمله أن يسمع موسيقاه حتى ساعات متأخرة من خلال سماعات تصلح للملاعب الرياضية بدلاً من المنازل. وإن تم تطبيق هذه القوانين بحزم وعدل نجد أن الجميع يتوصل مع الوقت إلى الاستنتاج بأن هذه القوانين تسهل من حياتنا وتجعلها أكثر راحة، وتصبح أعرافاً متفق عليها حتى يكاد يُنسى أنها قوانين في الأصل. ولكن نجد في مجتمعاتنا أن هذه القوانين، إن وجدت، نادراً ما تطبق، وإن طُبقت، يكون التطبيق عشوائياً ومزاجياً. وإن نظام السلوكيات الذي يتبعه الكثيرون مع من لا يعرفونهم يعتمد على ما يمكنهم أن ينفذوا به دون أي عقاب اجتماعي أو قانوني.

ومع أنه يمكن تفسير الكثير من السلوكيات المنتشرة حولنا من خلال العوامل السياسية والقتصادية والاجتماعية السائدة، إلا أنه يمكن أيضاً تفسير بعضها من خلال واقع تنظيم وتخطيط مدننا. ومن أهم مكونات المدينة الصحية هو توفر الأماكن العامة. إن هذه الأماكن تتضمن تلك التي يمكن لسكان المدينة جميعهم أن يقصدوها، من أرصفة وساحات ومنتزهات. وتُعتبر الأماكن العامة من أهم موارد المدينة المتوفرة لسكانها. ونحتاج إلى كمية مناسبة منها ذات نوعية جيدة. وكلما ازداد تفاعل الناس مع بعضهم البعض في أماكن عامة معتنى بها، كلما زادت الفرص لنمو أنظمة سلوكيات نتفق جميعنا عليها وتتصف باحترام الغير وتقبلهم.

إن الأماكن العامة في عمان تتكون في أغلبيتها من شوارع. ويمكن للشوارع أن تكون أماكن عامة في غاية الروعة. وهذا ينطبق على الشوارع التي تحدَها أرصفة واسعة تظللها الأشجار وتجاورها المتاجر والمقاهي والمطاعم، وأيضاً تحتوي على معابر كافية للمشاة. ولكن بدلاً من تسهيل حركة المشاة وتشجيعها، فإن شوارع عمان أماكن تسيطرعليها المركبات، وتتصف القيادة فيها بالتهور والهجومية والوقاحة. وما ننساه هو أنه عند غياب قوانين السير الفعالة فإن المركبات بطبعها تشجع هذه التصرفات. إن السائق يشعر بالحماية والعزلة داخل هيكل سيارته، ويعرف أنه يمكنه أن يقود سيارته دون أي اعتبار لمشاعر السائقين الآخرين أو المشاة، إذ يمكنه أن يبتعد عنهم وهو يعرف أنه في أغلب الظن لن يراهم بعد ذلك. وللأسف فإن معظم التفاعل مع الآخرين في الأماكن العامة في عمان يتم من خلال المركبات على الطرقات. وهذاالتفاعل في غالب الأحيان مزعج للغاية.

ووضع الأماكن العامة الأخرى في عمان ليس أفضل من ذلك. فساحات عمان ومنتزهاتها قليلة، والمتوفر منها يفتقد إلى الدرجة الكافية من الصيانة والمتابعة، ولذلك نجد فيها الأرضيات المكسورة والنباتات الميتة والنفايات المنتشرة ومجموعات من الشباب تبدو أن هوايتهم الرئيسية هي مضايقة النساء. والأمكنة الوحيدة التي يمكن وصفها بالعامة التي يذهب الناس إليها بكثرة هي المولات. فهي أماكن شبه عامة تتصف بدرجة جيدة من الصيانة والعناية والمتابعة. ولكنها أماكن مراقبة بشدة تفتقد إلى التنوع ومكرسة إلى نشاط رئيسي وهو التسوق. وإنه وضع مؤسف عندما تصبح المولات المكان العام الرئيسي في المدينة. بالإضافة إلى ذلك، إذا أراد شاب أن يدخل مولاً دون رفقة امرأة ففي الغالب لن يسمح له، إذ يحكم عليه مباشرة بأنه مذنب وأنه سيسبب المشاكل. وبما أنه يعامل على أنه منبوذ اجتماعي فالأغلب أنه سيبدأ بالتصرف كذلك.

من صفات المدينة الجيدة التخطيط أن يتمكن أي شخص فيها أن يخرج من بيته وأن يسير (وليس أن يقود سيارة) مسافة قصيرة (لا تتعدى الكيلومتر الواحد) على أرصفة جيدة التصميم ومظللة بالأشجار ليصل إلى مكان عام معتنى به يستطيع أن يجلس فيه أو يتمشي أو يقابل اصدقائه أو يلعب. وكلما ازداد انتشار هذه الأماكن العامة في المدينة، كلما أصبحت المدينة أفضل للجميع. وعندما نعيش في مدن جيدة التصميم والاعتناء فكثيراً ما يرتقي تصرفنا فيها ليجاري مستواها. ويسهل في مثل هذه الظروف تطور وتطبيق أنظمة سلوكيات نرتاح جميعنا لها، ويقل الاحتمال أن تنحدر المدينة إلى مكان تسود فيه التصرفات غير الحضارية.

هناك حاجة لإعادة التفكير بالأماكن العامة في عمان وإعادة تنظيمها وتطويرها لتصبح أماكن لالتقاء الجميع ولاحتفائهم بمدينتهم وبما تقدمه لهم.

 

*الدكتور محمد الأسد مهندس معماري ومؤرخ، وهو مؤسس مركز دراسات البيئة المبنية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية