هل من بديل للناتو في سوريا؟

الأربعاء 31 آب 2011

بقلم بشار حميض باحث في شؤون الديمقراطية والطاقة

على وقع أصوات القنابل المسمارية والحارقة التي يطلقها النظام السوري ضد المتظاهرين وقتله أكثر من 2000 شخص خلال خمسة أشهر، وأصوات إطلاق الرصاص من رشاشات ثوار ليبيا الذين نجحوا في القضاء على حكم القذافي بمساندة عسكرية خارجية، وعلى وقع صوت آلة الإجرام العسكري التي تستخدمها الأنظمة العربية والنظام الصهيوني ضد الأهالي، يبدو التمسك بالخيار اللاعنفي في المقاومة أمرا ساذجا، وتتعالى الأصوات كل مرة بأنه لا بديل عن المقاومة المسلحة أو التدخل العسكري من خارج الحدود لإنقاذ المدنيين. لا شك أن كثيرا من هذه الأصوات هي أصوات صادقة وتسعى بالفعل إلى وقف إراقة الدماء، وهي تصدر أحيانا من من المدنيين الذين يتعرضون شخصيا للتهديد بالقتل من قبل أنظمة لم يعد لديها أي وازع، لكننا هنا نود أن نفكر خارج الصندوق وأن لا يجرنا هول اللحظة إلى الوقوع فيما لا تحمد عقباه.

الوضع الحالي ليس جديدا

الوضع الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم ليس جديدا فقد تكرر تاريخيا عدة مرات، أكثر الأمثلة جلاء له كانت الحرب العالمية الثانية (1939) التي بررت فيها قوات الحلفاء أعمالها العسكرية بجهود وقف المذبحة التي كان الحزب النازي الألماني قد بدأها في أوروبا منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي. فحينها خفتت أصوات المفكرين والناشطين المعادين للعسكرة، فيما انبرى بعضهم للدفاع عن التدخل العسكري معتبرين أن الهولوكوست كان استثناءا تاريخيا يبرر التدخل العسكري لوقفه. ثم تكررت في أوروبا نفس الحجة في نهاية القرن الماضي بعد مذبحة سربرنيتشا، التي شهدتها البوسنة والهرسك سنة 1995 على أيدي القوات الصربية، حينها تمكن زعيم حزب الخضر في ألمانيا، يوشكا فيشر، من اقناع حزبه، المعارض التقليدي للحروب، لتأييد التدخل العسكري “من أجل عدم تكرار مأساة أوشفيتز* جديدة في أوروبا” على حد قوله. ولاحقا عندما أصبح فيشر وزيرا للخارجية الألمانية عام 1998 قادها مع المستشار الألماني جيرهارد شرويدر للمشاركة عسكريا في البوسنة ومن ثم في حرب العراق (قدمت مساعدة لوجستية للولايات المتحدة، رغم المعارضة الخطابية المعروفة للحرب) ثم في حرب أفغانستان التي لا تزال قوات ألمانية تشارك فيها إلى اليوم. بذلك كان هذا الحزب اللاعنفي الأخضر هو نفسه الذي هدم الحاجز الأخلاقي أمام عودة ألمانيا كقوة عسكرية عالمية ممهدا الطريق لدخول ألمانيا في عالم العسكرة العالمية التي واصلت حمل شعار “التدخل الإنساني” إلى يومنا هذا.

تدخل الدول فقد شرعيته

إن نقاشا حامي الوطيس دار في ألمانيا ودول أوروبية أخرى مؤخرا بعد أن استقال الرئيس الألماني هورست كولر من منصبه نتيجة لاعترافه علنا أن التدخل الألماني في أفغانستان قائم أيضا على المصالح الاقتصادية لألمانيا. لقد أصبح من الواضح أن تدخل الدول الكبرى والإقليمية في الصراعات غالبا ما يخدم مصالح الشركات الكبرى، خصوصا تلك التي تعمل في مجال الطاقة والبنية التحتية والتي تبحث عن عقود طويلة الأجل. وهنا نجد أن هناك شبهة قوية في أن هذه الشركات تسعى لإقامة ديكتاتوريات جديدة أو شبه ديمقراطيات “منمقة” ترعى مصالح هذه الشركات على المدى البعيد، أما النظام الديمقراطي الحقيقي الذي يتسم بتغيير في القيادات السياسية في كل فترة، فلا يبدو متوافقا مع مصالح شركات من هذا النوع، خصوصا أن توقيع مثل هذه العقود عادة لا يتم في أجواء الشفافية والرقابة الشعبية كون دفع الرشاوى والفساد أضحى جزءا أساسيا من عمل هذه الشركات.

إن حكومات الدول الكبرى تمثل اليوم إلى حد كبير مصالح هذه الشركات، وتأخذ في نفس الوقت لنفسها الحق في تغيير الأنظمة وتكوينها على الشكل الذي تريده، لذا من حق الأفراد والمنظمات الأهلية غير الحكومية والحركات أن تعبر عن مصالحها في هذا الشأن أيضا وأن تكون درعا أمام العسكرة وقتل المدنيين وإفراغ التحول الديمقراطي العالمي من مضمونه. لكن المفكرين ومراكز “أبحاث السلام” و”إدارة الصراع” لم يقدموا إلى اليوم بدائل واضحة المعالم لما يطرحه “المجتمع الدولي” من أسلوب تقليدي لمنع قتل المدنيين من قبل السلطات الديكتاتورية في العالم. ففي مثل هذه الحالات يبدأ الأمر بالمقاطعة الاقتصادية والديبلوماسية وينتهي بتشغيل آلة قتل أخرى تجر وراءها دمارا، لا نستطيع أن نجزم بثقة أنه أقل وطأة من حالة عدم التدخل العسكري من الخارج بالأسلوب المعروف. وسواء أكانت هذه المراكز البحثية مستقلة حقا وتعمل من أجل السلام أو أنها واجهات لمؤسسات عسكرية وشبه عسكرية فإنها لا تطرح إلى الآن بدائل غير عسكرية لحالات مثل سوريا وليبيا وغيرها.

كما أن مفكرين معروفين بمناهضتهم للإمبريالية والعسكرة، مثل نعوم تشومسكي في كتابه (النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة: دروس من كوسوفو، 1999) لم يقدموا بدائل لتدخل حلف الناتو العسكري، رغم أنه بينوا بجلاء في تحليلاتهم أن الناتو لم يكن يبالي بما يحصل على الأرض من عمليات تطهير عرقي وأن مصالح الولايات المتحدة والغرب الاستراتيجية كانت هي الأساس الذي بنيت عليه خطط التدخل العسكري. ولعل أقوى البحوث التي نشرت حول ذلك هو كتاب (في ظل حروب “عادلة”، العنف والسياسية والعمل الإنساني، 2006) الذي نفذته منظمة أطباء بلا حدود، التي تمتلك معلومات قيمة حول أغلب الصراعات المسلحة في العالم وتتمتع باستقلالية عالية.

بديل العسكرة

وإذا ما عدنا إلى الوضع السوري تحديدا فسنجد فقرا هائلا في البدائل المطروحة، ومع الفقر العربي والغربي على المستوى الأكاديمي في طرح البدائل، هناك بعض المحاولات الأوروبية المهمة للتأسيس لأساليب غير عسكرية للتدخل الإنساني يجدر الانتباه لها والبناء عليها، خصوصا أننا في العالم العربي أكثر ما نحتاج لمثل ذلك. لكن يجب الانتباه بداية أن البدائل غير العسكرية يمكن أن تكون أكثر صعوبة واستهلاكا للوقت والجهد وبالطبع أقل شعبية من الحلول العسكرية التي تتحمس لها الغالبية الشعبية بسرعة. فالأساليب العسكرية عادة ما تؤتي نتائج سريعة، ولكن ما يتم تجاهله هو أن الأعراض الجانبية اللاحقة لعسكرة الصراع يحتاج علاجها سنوات طويلة، مع احتمال كبير أن تتحول لحالات مزمنة من العنف الأهلي والمشكلات الاجتماعية والنفسية.

وإذا ما أخذنا الحالة الليبية كمثال نجد البروفيسور إيكارت كريبيندورف من جامعة برلين الحرة يطرح رؤية غير عسكرية قوامها التخلص من الحكم الديكتاتور الليبي عن طريق عزله عن محيطه القبلي والعائلي والمرتزقة المحيطين به. فإي سلطة لن تستطيع الاستمرار إذا فقدت مؤيديها الأساسيين في قاعدة المجتمع. وإذا ما حللنا الطريقة التي تحرك فيها الأنظمة القمعية في العالم العربي مواليها فسنجدها غالبا ما تعتمد على الفئات الاجتماعية الأكثر بعدا عن المدينة والأقل تعليما، وغالبا ما تستخدم أجهزة الدولة دعايات كاذبة حول معارضيها تبثها بين هذه الفئات التي يسهل التلاعب برأيها. وقد وصف لي بعض الناشطين السوريين كيف أن السلطات السورية تذهب إلى القرى النائية لتجميع أفراد يؤيدونها وذلك بتقديم معلومات مغلوطة لهم حول المتظاهرين. وفي مثل هذه الحالات يرى كريبيندورف أنه من الضروري التوجه بحملات إعلامية مركزة إلى هذه الفئات وتعريفها بما يحصل. كذلك الأمر بالنسبة للمرتزقة الذين يستخدمهم النظام من خارج أرضه، فهؤلاء في الغالب لا يعرفون ما يجري على الأرض حقا وليس لديهم معلومات حول العواقب التي تنتظرهم في حال مشاركتهم في أعمال قمع أو جرائم ضد الإنسانية. بجانب الاستراتيجية الإعلامية لتفتيت الولاء للسلطة، هناك استراتيجية فتح الأبواب للمنشقين عن السلطة، وذلك بتهيئة ملاجئ آمنة لهم وحمايتهم من الانتقام، وتعد هذه الاستراتيجية بالغة الأهمية، حيث أن أغلب الأشخاص الذين يتمتعون بالوعي والمصطفين مع النظام يعرفون أنهم يؤيدون الطرف الخاسر، لكن الظروف حولهم لا تسمح بانشقاقهم عنه لأسباب عائلية أو لوجستية، لذا فإنه من الضروري تهيئة الظروف لانشقاقهم.

بالطبع هناك جهود في مثل هذه الاتجاهات رأيناها في حالات ليبيا والعراق وغيرها، لكن المحاولات المنفردة من هذا النوع سواء من دول أو أفراد أو منظمات لن تجدي نفعا، فالمهم في مثل هذا الأسلوب أن يتم تخطيطه وتنفيذه بشكل منسق ومن خلال جهد محلي أساسي وخارجي مساند له، وبرعاية أكاديمية من باحثين في مجال الصراعات والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والإعلام والسياسية والحقوق. لذا من الضروري اليوم تأسيس ائتلافات عالمية غير حكومية تكون بمثابة فريق عمل مهمته التدخل غير العسكري في حالات القمع الشديد والجرائم ضد الإنسانية المرافقة للثورات الشعبية مثلما هو الحال في سوريا. هذا الجهد يجب أن تقوده المنظمات العربية والعالمية، خصوصا تلك المهتمة بحقوق الإنسان وحرية الصحافة والمنظمات الإنسانية التي تضع وقف الحروب هدفا لها، مثل منظمة أطباء بلا حدود، بشرط أن تكون المنظمات المشاركة بعيدة عن تمويل الحكومات والشركات الكبرى.

الاستثناء التاريخي السوري

إن الوضع في سوريا اليوم يتطلب تدخلا من نوع آخر، غير ذلك الذي بطرحه “المجتمع الدولي”. فلقد شق ثوار سوريا طريقا في التغيير يعد استثناءا تاريخيا مهما في تاريخ الثورات والتحول الديمقراطي. فحسبما يقول خبير التحولات الديمقراطية آدم برسيفورسكي في مقاله “ألعاب التحول” الذي يدرس فيه سيناريوهات التحول نحو الديمقراطية حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، فإن المجتمع الذي يشعر أن هناك احتمالا لتعرضه للقمع الشديد نتيجة للثورة لن يقوم بهذه الثورة. إلا أن المثال السوري أثبت أنه استثناء لهذه القاعدة، فرغم تأكد المجتمع السوري من العواقب الوخيمة لثورته فإنه استمر بها ملتزما باللاعنف، في انضباط قل نظيره تاريخيا. إن التاريخ لا يعيد نفسه وحسب، لكنه يحمل في طياته أيضا مفاجآت تخرجه عن سياقه “المعروف”، لذا فإن ما يقوله كثير من المراقبين من أنه لم يحدث أن سقط نظام ما بثورة مدنية بحتة، ينم عن جهل بالتاريخ وباستثناءاته. إن آخر الأخبار من سوريا تفيد بأن “الشبيحة” أنفسهم بدأوا بالتململ بسبب تقليل وتأخير المبالغ المدفوعة لهم، كما أن الجيش السوري نفسه بدأ بتحركات ضد قادته منذ فترة مبكرة، لذا فإنه من المهم أن يدعم التحرك المدني السوري من الحركات المدنية التي تنسجم مع أهداف هذا التحرك السوري اللاعنفي الهادف للديمقراطية، وليس من قبل دول تمارس نفسها انتهاك حقوق الإنسان والأقليات أو تريد تأسيس ديمقراطيات مشوهة.

الصورة أعلاه من موقع Shutterstock.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية